فصل: فصل إذا أنهشه حية أو ألدغه عقرباً يقتل غالباً

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روضة الطالبين وعمدة المفتين **


 الباب السادس في نفقة المملوك

تجب على السيد نفقة رقيقه قوتاً وأدماً وكسوته وسائر مؤوناته قناً كان أو مدبراً أو أم ولد سواء الصغير والكبير والزمن والأعمى والسليم والمرهون والمستأجر وغيرهم فإن كان كسوباً فكسبه لسيده فإن شاء أخذه وأنفق عليه من سائر أمواله وإن شاء أنفق عليه من كسبه فإن لم يف بها فالباقي على السيد وإن زاد فالزيادة للسيد ولو اشترك جماعة في رقيق فالنفقة عليهم بحسب أنصبائهم ولا تجب نفقة المكاتب على سيده‏.‏

قلت وهل يلزم السيد شراء الماء لطهارة رقيقه وجهان أصحهما نعم كفطرته والثاني لا لأن له فصل لا تتقدر نفقة الرقيق لا تتقدر نفقة الرقيق بل تعتبر الكفاية وفيما تعتبر به الكفاية أوجه أصحها تعتبر كفايته في نفسه وتراعى رغبته وزهادته وإن زاد ذلك على كفاية مثله غالباً والثاني يعتبر ما يكفي مثله في الغالب ولا يعتبر نفسه وعن صاحب الحاوي إن كان يؤثر فقد الزيادة في قوته وبدنه لزمت السيد وإلا فلا وينبغي أن تجيء هذه الأوجه في نفقة القريب‏.‏

 فصل جنس نفقة الرقيق

وأما جنس نفقة الرقيق فغالب القوت الذي يطعم منه المماليك في البلد من الحنطة والشعير وغيرهما وكذا الأدم الغالب والكسوة من القطن والكتان والصوف وغيرها وتراعى حال السيد في اليسار والإعسار فيجب ما يليق بحاله من رفيع الجنس الغالب وخسيسه ولا يجوز الإقتصار في الكسوة على ستر العورة وإن كان لا يتأذى بحر ولا برد ولو تنعم السيد في الطعام والأدم والكسوة استحب أن يدفع إليه مثله ولا يلزمه بل له الإقتصار على الغالب ولو كان السيد يأكل ويلبس دون المعتاد غالباً إما بخلاً وإما رياضة لزمه رعاية الغالب للرقيق على الصحيح وقيل له الإقتصار على ما اقتصر عليه لنفسه‏.‏

إذا كان له عبيد يستحب أن يسوي بينهم في الطعام والكسوة‏.‏

ويفضل النفيس على الخسيس والصحيح الأول وفي الجواري وجهان أحدهما يسوي بينهن كالعبيد وأصحهما يفضل ذوات الجمال والفراهة للعادة وهذا هو المنصوص وسواء فيه السرية وغيرها والمراد بالتسوية أنه يكره التفضيل وبالتفضيل أنه مستحب لا واجب‏.‏

 فصل إذا ولي رقيقه معالجة طعامه

فجاءه به فينبغي أن يجلسه معه ليتناول منه فإن لم يفعل السيد أو امتنع الرقيق توقيراً للسيد فينبغي أن يروغ له السيد لقمة أو لقمتين ثم يناوله والترويغ أن يرويها دسماً وأشار الشافعي رضي الله عنه في ذلك إلى ثلاثة أقوال أحدها أنه يجب الترويغ والمناولة فإن أجلسه معه فهو أفضل والثاني يجب أحدهما لا بعينه وأظهرهما لا يجب واحد منهما والأمر بهما على الإستحباب ندباً إلى التواضع ومكارم الأخلاق ومنهم من قطع بنفي الوجوب وذكر قولين في أن الإجلاس أفضل أم هما متساويان والمذهب الأول وأصل هذا الإستحباب في مناولة الطعام اللذيذ يشمل من عالجه وغيره لكنه فيمن عالجه آكد ورعايته في حق الحاضرين أهم والخلاف في الوجوب مختص بمن عالجه وليكن ما يناوله لقمة كبيرة تسد مسدا لا صغيرة تهيج فصل نفقة الرقيق لا تصير دينا نفقة الرقيق لا تصير دينا بل تسقط بمضي الزمان ولو دفع إليه طعاماً ثم أراد إبداله قال الروياني ليس له ذلك عند الأكل ويجوز قبله وعن الماوردي أنه إن تضمن الأبدال تأخر الأكل لم يجز‏.‏

 فصل إذا ولدت أمته أو أم ولده منه فله أن يجبرها

على إرضاعه لأن لبنها ومنافعها له ولو أراد تسليم الولد إلى غيرها وأرادت هي إرضاعه فوجهان أحدهما له ذلك لأنها ملكه وقد يريد الإستمتاع بها واستخدامها وأصحهما ليس له وبه قطع في الوجيز لأن فيه تفريقاً بين الوالدة وولدها لكن له أن يضمه في أوقات الإستمتاع إلى غيرها وليس له أن يكلفها إرضاع غير ولدها معه بأجرة ولا بغيرها إلا أن يفضل لبنها عن ري ولدها لقلة شربه أو لكثرة اللبن أو لاجتزائه بغير اللبن في أكثر الأوقات ولو مات ولدها أو استغنى عن اللبن فله ذلك وله إجبارها على فطامه قبل الحولين إذا اجتزأ الولد بغير اللبن وعلى الإرضاع بعد الحولين وإن كان يجتزيء بغير اللبن إلا إذا تضررت به وليس لها الإستقلال بالفطام ولا الإرضاع‏.‏

فرع الحرة صاحبة حق في تربية الولد الحرة صاحبة حق في تربية الولد فليس لواحد من الأبوين الاستقلال بالفطام قبل تمام الحولين وعلى الأب الأجرة إذا امتنعت الأم من الفطام إما لها وإما لغيرها وذكر فيه احتمال إذا لم يتضرر به الولد وإن اتفقا عليه جاز إذا لم يتضرر الولد وأما بعد الحولين فيجوز لكل واحد منهما الفطام إذا اجتزأ بالطعام ويجوز أن يزاد في الإرضاع على الحولين إذا اتفقا‏.‏

فرع لو لم يكن ولد الأمة من السيد بل مملوك له من زوج أو زنى فحضانته على السيد وحكم الإرضاع على ما ذكرنا وإن كان الولد حراً فله طلب الأجرة على الإرضاع ولا يلزمه التبرع به كما لا يلزم الحرة التبرع ولو رضي بأن ترضعه مجاناً لم يكن لها الإمتناع‏.‏

 فصل تجوز المخارجة

وهي ضرب خراج معلوم على الرقيق يؤديه كل يوم أو أسبوع مما يكتسبه وليس للسيد إجبار العبد عليها ولا للعبد إجبار السيد كالكتابة وحكي قول مخرج أن للسيد إجباره كما ينقل منافعه قهراً إلى غيره وليس بشيء وإذا تراضينا على خراج فليكن له كسب دائم يفي بذلك الخراج فاضلاً عن نفقته وكسوته إن جعلهما في كسبه وإذا وفى وزاد كسبه فالزيادة بر من السيد لعبده وتوسيع للنفقة عليه وإذا ضرب عليه خراجاً أكثر مما يليق وألزمه تأديته منعه السلطان ويجبر النقص في بعض الأيام بالزيادة في بعضها والمخارجة غير لازمة‏.‏

 فصل لا يجوز للسيد أن يكلف رقيقه من العمل

إلا ما يطيق الدوام عليه فلا يجوز أن يكلفه عملاً يقدر عليه يوماً ويومين ثم يعجز عنه وإذا استعمله نهاراً أراحه ليلاً وكذا بالعكس ويريحه في الصيف في وقت القيلولة ويستعمله في الشتاء النهار مع طرفي الليل ويتبع في جميع ذلك العادة الغالبة وعلى العبد بذل المجهود وترك الكسل‏.‏

 فصل إذا امتنع من النفقة على مملوكه باع الحاكم ماله

في نفقته وهل يبيع شيئاً فشيئاً أم يستدين عليه فإذا اجتمع عليه شيء صالح باع فيه وجهان‏.‏

قلت الثاني أصح والله أعلم‏.‏

فإن لم يجد له مالا أمره بأن يبيعه أو يؤجره أو يعتقه فإن لم يفعل باعه الحاكم أو أجره فإن لم يشتره أحد أنفق عليه من بيت المال فإن لم يكن فيه مال فهو من محاويج المسلمين فعليهم القيام

 فصل من ملك دابة لزمه علفها وسقيها

ويقوم مقام العلف والسقي تخليتها لترعى وترد الماء إن كانت مما يرعى ويكتفى به لخصب الأرض ونحوه ولم يكن مانع ثلج وغيره فإن أجدبت الأرض ولم يكفها الرعي لزمه أن يضيف إليه من العلف ما يكفيها ويطرد هذا في كل حيوان محترم وإذا امتنع المالك من ذلك أجبره السلطان في المأكولة على بيعها أو صيانتها عن الهلاك بالعلف أو التخلية للرعي أو ذبحها وفي غير المأكولة على البيع أو الصيانة فإن لم يفعل ناب الحاكم عنه في ذلك على ما يراه ويقتضيه الحال وعن ابن القطان أنه لا يخليها لخوف الذئب وغيره فإن لم يكن له مال باع الحاكم الدابة أو جزءاً منها أو إكراها فإن لم يرغب فيها لعمى أو زمانة أنفق عليها بيت المال كالرقيق‏.‏

فرع جواز غصب العلف للدابة يجوز غصب العلف للدابة إذا لم يجد غيره ولم يبعه صاحبه وكذا غصب الخيط لجراحتها وفيهما وجه ضعيف‏.‏

فرع يحرم تكليف الدابة ما لا تطيقه قلت يحرم تحميلها ما لا تطيق الدوام عليه وإن كانت تطيقه يوماً ونحوه كما سبق في الرقيق والله أعلم‏.‏

فرع لا يجوز نزف لبن الدابة لا يجوز نزف لبن الدابة بحيث يضر ولدها وإنما يحلب ما فضل عن ري ولدها قال الروياني ويعني بالري ما يقيمه حتى لا يموت وقد يتوقف في الإكتفاء بهذا قال المتولي ولا يجوز الحلب إذا كان يضر البهيمة لقلة العلف قال ويكره ترك الحلب إذا لم يكن فيه إضرار بها لأنه تضييع للمال قال والمستحب أن لا يستقصي في الحلب ويدع في الضرع شيئاً وأن يقص الحالب أظفاره لئلا يؤذيها‏.‏

فرع يبقى للنحل شيئاً من العسل في الكوارة فإن كان أخذه العسل في الشتاء وزمن تعذر خروج النحل كان المتبقي أكثر وإن أقام شيئاً مقام العسل لغذائها لم يتعين إبقاء العسل‏.‏

فرع دود القز يعيش بورق التوت فعلى مالكه تخليته لأكله فإن عز الورق ولم يعتن المالك به بيع ماله في تحصيل الورق لئلا يهلك من غير فائدة فإذا جاء الوقت جاز تجفيفه بالشمس وإن كان يهلك لتحصل فائدته‏.‏

فرع ما لا روح فيه كالعقار والقنى والزرع والثمار لا يجب القيام بعمارتها ولا يكره ترك زراعة الأرض لكن يكره ترك سقي الزرع والأشجار عند الإمكان لما فيه من إضاعة المال قال المتولي ويكره أيضاً ترك عمارة الدار إلى أن تخرب ولا يكره عمارات الدور وسائر العقار للحاجة والأولى ترك الزيادة وربما قيل تكره الزيادة وبالله التوفيق‏.‏

 كتاب الجنايات

وهي القتل والقطع والجرح الذي لا يزهق ولا يبين وقتل النفس بغير حق من أكبر الكبائر‏.‏

قلت قال البغوي هو أكبر الكبائر بعد الكفر وكذا نص عليه الشافعي في كتاب الشهادات من المختصر وتقبل التوبة منه‏.‏

ولو قتل مسلم ثم مات قبل التوبة لا يتحتم دخوله النار بل هو في خطر المشيئة كسائر أصحاب الكبائر فإن دخلها لم يخلد فيها خلافاً للمعتزلة والخوارج والله أعلم‏.‏

ويتعلق بالقتل الذي هو ليس مباحاً سوى عذاب الآخرة مؤاخذات في الدنيا القصاص والدية والكفارة لكن لا يجتمع القصاص والدية لا وجوباً ولا استيفاء وأما الكفارة فأعم منهما فتجب مع كل واحد منهما وقد تنفرد عنهما‏.‏

قلت ويتعلق به أيضاً التعزير في صور منها إذا قتل من نساء أهل الحرب أو صبيانهم والله أعلم‏.‏

ثم القصاص لا يختص بالنفس بل يجري في غير النفس من الأطراف وغيرها والكلام فيه قسمان أحدهما في موجب القصاص والثاني في حكمه استيفاء وعفواً والأول نوعان قصاص نفس وقصاص طرف وجراحات فنذكر موجب القصاص وواجبه في النفس ثم في الطرف أما موجب القصاص في النفس فله ثلاثة أركان القتل والقتيل والقاتل‏.‏

الركن الأول القتل وهو كل فعل عمد محض مزهق للروح عدوان من حيث كونه مزهقا فهذا هو القتل الذي يتعلق به القصاص وقولنا كل فعل ليشمل الجرح وغيره وقولنا عدوان احتراز من القتل الجائز وقولنا من حيث كونه مزهقاً احتراز عما إذا استحق حز رقبته قصاصاً فقده نصفين فإنه لا يتعلق به قصاص وإن كان عدواناً لأنه ليس بعدوان من حيث كونه مزهقاً وإنما هو عدوان من حيث إنه عدل عن الطريق المستحق فيحتاج إلى بيان العمدية والمزهق وتعلق القصاص بالمباشرة والسبب وحكم اجتماع السبب والمباشرة وبيان حكم اجتماع المباشرتين وبيان اجتماع السببين فأما اجتماع السببين الطرف الأول في بيان العمدية وتمييز العمد من الخطأ وشبه العمد فإذا صدر منه فعل قتل غيره نظر إن لم يقصد أصل الفعل بأن زلق فسقط على غيره فمات به أو تولد الهلاك من اضطراب يد المرتعش أو لم يقصد الشخص وإن قصد الفعل بأن رمى صيداً فأصاب رجلاً أو قصد رجلاً فأصاب غيره فهذا خطأ محض لا يتعلق به قصاص وإن قصد الفعل والشخص معاً فهذا قد يكون عمداً محضاً وقد يكون شبه عمد وفي التمييز بينهما عبارات للأصحاب يجمعها أربعة أوجه أحدها أنه إذا وجد القصدان وعلمنا حصول الموت بفعله فهو عمد محض سواء قصد الإهلاك أم لا وسواء كان الفعل مهلكاً غالباً أم نادراً كقطع الأنملة وإن شككنا في حصول الموت به فهو شبه عمد والثاني إن ضربه بجارح فالحكم على ما ذكرنا وإن ضربه بمثقل اعتبر مع ذلك في كونه عمداً أن يكون مهلكاً غالباً فإن لم يكن مهلكاً غالباً فهو شبه عمد واعترض الغزالي على الأول بأنه لو ضرب كوعه بعصاً فتورم الموضع ودام الألم حتى مات فقد علمنا حصول الموت به ولا قصاص فيه بل تجب الدية وعلى الثاني بأن العمدية أمر حسي لا يختلف بالجارح والمثقل وكما يؤثر الجارح في الظاهر بالشق يؤثر المثقل في الباطن بالترضيض وفي كلام الإمام نحو هذا والوجه الثالث واختاره الغزالي أن لإفضاء الفعل إلى الهلاك ثلاث مراتب غالب وكثير ونادر والكثير هو المتوسط بين الغالب والنادر ومثاله الصحة والمرض والجذام فالصحة هي الغالبة في الناس والمرض كثير ليس بغالب والجذام نادر فإن ضربه بما يقتل غالبا جارحاً كان أو مثقلاً فعمد وإن كان يقتل كثيراً فهو عمد إن كان جارحاً كالسكين الصغير وإن كان مثقلاً كالسوط والعصا فشبه عمد وإن كان يقتل نادراً فلا قصاص مثقلاً كان أو جارحاً كغرز إبرة لا يعقبه ألم ولا ورم والفرق بين الجارح والمثقل على هذا الوجه أن الجراحة لها أثر في الباطن قد يخفى ولأن الجرح وهو طريق الإهلاك غالباً بخلاف المثقل والوجه الرابع وهو الذي اقتصر عليه الجمهور أنه إن ضربه بما يقتل غالباً فعمد محض وإن لم يقتل غالباً فشبه عمد فهذه عبارات الأصحاب في التمييز والقصاص مختص بالعمد المحض دون الخطأ وشبه العمد‏.‏

فرع جرحه بمحدد من حديد أو خشب أو حجر أو قصب أو زجاج أو نحاس أو غيرها فمات في الحال أو بعد مدة بسراية تلك الجراحة وجب القصاص‏.‏

والطعن بالسنان وغرز المسلة كالضرب بالسيف وهذا في الجراحات التي لها تأثير فأما إبانة فلقة من اللحم خفيفة فهو كغرز الإبرة كذا ذكره الإمام وإذا غرز إبرة فمات نظر إن غرزها في مقتل كالدماغ والعين وأصل الأذن والحلق وثغرة النحر والأخدع وهو عرق العنق والخاصرة والإحليل والأنثيين والمثانة والعجان وهو ما بين الخصية والدبر وجب القصاص وإن غرزها في غير مقتل نظر إن ظهر أثر الغرز بأن تورم الموضع للإمعان في الغرز والتوغل في اللحم وبقي متألماً إلى أن مات وجب القصاص على المذهب وحكى ابن كج وابن الصباغ فيه وجهين وإن لم يظهر أثر ومات في الحال فثلاثة أوجه أصحها لا يجب القصاص ولكنه شبه عمد فيجب الدية والثاني يجب القصاص والثالث لا يجب قصاص ولا دية وفي الرقم للعبادي أن الغرز في بدن الصغير والشيخ الهم ونضو الخلق يوجب القصاص بكل حال ولو غرز إبرة في جلدة العقب ونحوها ولم يتألم به فمات فلا قصاص ولا دية لعلمنا بأنه لم يمت به والموت عقبه موافقة قدر فهو كما لو ضربه بقلم أو ألقى عليه خرقة فمات في الحال‏.‏

فرع لو ضربه بمثقل كبير يقتل غالباً كحجر أو دبوس كبيرين أو أحرقه أو صلبه أو هدم عليه حائطاً أو سقفاً أو أوطأه دابة أو دفنه حياً أو عصر خصيته عصراً شديداً فمات وجب القصاص وإن ضربه بسوط أو عصاً خفيفة أو رماه بحجر صغير نظر إن والى به الضرب حتى مات أو اشتد الألم وبقي متألماً حتى مات وجب القصاص وإن لم يوال واقتصر على سوط أو سوطين فإن كان في مقتل أو في شدة الحر أو البرد المعينين على الهلاك أو كان المضروب صغيراً أو ضعيفاً بأصل الخلقة أو بعارض وجب القصاص لأنه مهلك غالباً وإن لم يكن شيء من ذلك فهو شبه عمد وإن خنقه أو وضع على فمه يده أو مخدة ونحوها حتى مات بانقطاع النفس وجب القصاص وإن خلاه وهو حي وجب القصاص أيضاً إن انتهى إلى حركة المذبوح أو ضعف وبقي متألماً حتى مات وإن زال الضعف والألم ثم مات فقد انقطع أثر ذلك الفعل فإن كانت مدة الإمساك على الفم قصيرة لا يموت مثله في مثلها غالباً فهو شبه عمد‏.‏

فرع لو ضربه اليوم ضربة وغداً ضربة وهكذا فرق الضربات حتى مات فوجهان حكاهما ابن كج لأن الغالب السلامة عند تفريق الضربات وقال المسعودي لو ضربه ضربة وقصد أن لا يزيد فشتمه فضربه ثانية ثم شتمه فضربه ثالثة حتى قتله فلا قصاص لعدم الموالاة وينبغي أن لا ينظر إلى صورة الموالاة ولا تقدر مدة التفريق بل يعتبر أثر الضربة السابقة والآلام الحاصلة بها فإن بقيت فرع الضرب بجمع الكف كالضرب بالعصا الخفيفة‏.‏

فرع لو سقاه دواء أو سماً لا يقتل غالباً لكنه يقتل كثيراً فهو كغرز الإبرة في غير مقتل لأن في الباطن أغشية رقيقة تنقطع به وفي إلحاقه بالمثقل احتمال‏.‏

فرع حبسه في بيت فمات جوعاً أو عطشاً نظر إن كان عنده طعام وشراب فلم يتناوله خوفاً أو حزناً أو أمكنه طلبه ولو بالسؤال فلم يفعل لم يجب على حابسه قصاص ولا ضمان لأن المحبوس قتل نفسه وإن منعه الطعام والشراب ومنعه الطلب حتى مات نظر إن مضت مدة يموت مثله فيها غالباً بالجوع أو العطش وجب القصاص وتختلف المدة باختلاف حال المحبوس قوة وضعفاً والزمان حراً وبرداً وإن لم تمض هذه المدة ومات فإن لم يكن به جوع أو عطش سابق فهو شبه عمد وإن كان به بعض جوع أو عطش ففي وجوب القصاص ثلاثة أقوال أظهرها أنه إن علم الحابس جوعه السابق لزمه القصاص وإلا فلا والثاني يجب القصاص في الحالين والثالث عكسه وشبهوا الجاهل بمن دفع رجلاً دفعاً خفيفاً فسقط على سكين وراءه والدافع جاهل بها لا قصاص عليه فإن أوجبنا القصاص وجبت دية عمد بكمالها إن كان عالماً ودية شبه عمد إن كان جاهلاً وإن لم نوجب القصاص فقولان أحدهما تجب الدية بكمالها وإنما سقط القصاص للشبهة وأظهرهما وبه قطع الأكثرون تجب نصف دية العمد أو شبه العمد‏.‏

ولو منعه الشراب دون الطعام فلم يأكل المحبوس خوفاً من العطش فمات فلا قصاص قطعاً ولا ضمان أيضاً على الأصح وبه قطع البغوي لأنه المهلك نفسه وقال القفال يجب ولو حبسه وراعاه بالطعام والشراب فمات في الحبس فإن كان عبداً ضمنه باليد وإن كان حراً فلا ضمان أصلاً سواء مات حتف أنفه أو بانهدام سقف أو جدار عليه أو بلسع حية ونحوها‏.‏

ولو حبسه وعراه حتى مات بالبرد فهو كما لو حبسه ومنعه الطعام والشراب ذكره القاضي حسين‏.‏

ولو أخذ طعامه أو شرابه أو ثيابه في مفازة فمات جوعاً أو عطشاً أو برداً فلا ضمان لأنه لم يحدث فيه صنعاً‏.‏

فرع لو سحر رجلاً فمات سألناه فإن قال قتلته بسحري وسحري يقتل غالباً لزمه القصاص وإن قال قد يقتل والغالب أنه لا يقتل فهو إقرار بشبهة العمد وإن قال قصدت غيره فتأثر به لموافقة الاسم الاسم فهو إقرار بالخطأ وفي الحالين دية شبه العمد والخطأ يكون في ماله ولا يلزم العاقلة إلا أن يصدقوه وسيعود ذكر السحر إن شاء الله تعالى في كتاب الديات ثم في كتاب دعوى الدم ولنا وجه ضعيف مذكور هناك أن السحر لا حقيقة له فلا قصاص فيه‏.‏

الطرف الثاني في بيان المزهق فالفعل الذي له مدخل في الزهوق إما أن لا يؤثر في حصول الزهوق ولا في حصول ما يؤثر في الزهوق وإما أن يؤثر في الزهوق ويحصله وإما أن يؤثر في حصول ما يؤثر في الزهوق فأما الأول فكحفر البئر مع التردي أو التردية وكالإمساك مع القتل وأما الثاني فكالقد وحز الرقبة والجراحات السارية وأما الثالث فكالإكراه المؤثر في القد فالأول شرط والثاني علة والثالث سبب ولا يتعلق القصاص بالشرط ويتعلق بالعلة وكذا بالسبب على تفصيل وخلاف سنراه إن شاء الله تعالى‏.‏

ثم السبب ثلاثة أضرب الأول ما يولد المباشرة توليداً حسياً وهو الإكراه فإذا أكرهه على قتل بغير حق وجب القصاص على الآمر على الصحيح المنصوص وبه قطع الجمهور وعن ابن سريج أنه لا قصاص لأنه متسبب والمأمور مباشر آثم بفعله والمباشرة مقدمة وقد سبق بيان حقيقة الإكراه في كتاب الطلاق والذي مال إليه المعتبرون هنا ورجحوه أن الإكراه على القتل لا يحصل إلا بالتخويف بالقتل أو ما يخاف منه التلف كالقطع والجرح والضرب الشديد بخلاف الطلاق وحكم الإكراه الصادر من الإمام أو نائبه أو المتغلب سواء فيما ذكرناه‏.‏

الضرب الثاني ما يولدها شرعاً وهو الشهادة فإذا شهدوا على رجل بما يوجب قتله قصاصاً أو بردة أو زنى وهو محصن فحكم القاضي بشهادتهم وقتله بمقتضاها ثم رجعوا وقالوا تعمدنا وعلمنا أنه يقتل بشهادتنا لزمهم القصاص ولو شهدوا بما يوجب القطع قصاصاً أو في سرقة فقطع ثم رجعوا وقالوا تعمدنا لزمهم القطع وإن سرى فعليهم القصاص في النفس وإن رجع الشهود وقالوا لم نعلم أنه يقتل بقولنا أو رجع المزكي أو القاضي أو الوالي وحده أو مع الشهود فسيأتي بيان كل ذلك في كتاب الشهادات إن شاء الله تعالى‏.‏

وإنما يجب القصاص على الشهود بالرجوع واعترافهم بالتعمد لا بكذبهم حتى لو تيقنا كذبهم بأن شاهدنا المشهود بقتله حياً فلا قصاص عليهم لاحتمال أنهم لم يتعمدوا ولا يلزمهم القصاص بالرجوع إلا إذا أخرجت شهادتهم مباشرة الولي عن كونها عدواناً أما إذا اعترف الولي بكونه عالماً بكذبهم فلا قصاص عليهم وعلى الولي القصاص رجعوا أم لم يرجعوا‏.‏

الضرب الثالث ما يولدها توليداً عرفياً كتقديم الطعام المسموم فإذا أوجروه سماً صرفاً أو مخلوطاً وهو مما يقتل غالباً سواء كان موحياً أو غير موح فمات لزمه القصاص وإن كان لا يقتل غالباً وقد يقتل فهو شبه عمد فلا قصاص على المشهور وحكى ابن كج قولاً إنه يجب القصاص لأن للسم نكاية في الباطن كالجرح فعلى المشهور لو كان السم لا يقتل غالباً لكن أوجره ضعيفاً بمرض أو غيره ومثله يقتل مثله غالباً وجب القصاص ولو قال الموجر كان مما لا يقتل غالباً ونازعه الولي فالقول قول الموجر بيمينه فإن ساعدته بينة فلا يمين عليه وإن أقام الولي بينة على ما يقوله وجب القصاص ولو اتفقا على أنه كان من هذا السم الحاضر وشهد عدلان أنه يقتل غالباً وجب القصاص ولو قال لم أعلم أنه سم أو لم أعلم أنه يقتل غالباً ونازعه الولي فهل يصدق الموجر قولان قال الروياني فيما إذا قال لم أعلم كونه قاتلاً أظهرهما لا يصدق فيجب القصاص ولو لم يوجره السم القاتل لكن أكرهه على شربه فشربه قال الداركي وغيره في وجوب القصاص قولان أظهرهما الوجوب والوجه أن يكون هذا كإكراهه على قتل نفسه وسيأتي إن شاء الله تعالى‏.‏

فرع لو ناوله الطعام المسموم وقال كله أو قدمه إليه وضيفه به فأكله ومات به فإن كان صبياً أو مجنوناً لزمه القصاص سواء قال لهما هو مسموم أم لا وذكروا مثله في الأعجمي الذي يعتقد أنه لا بد من الطاعة في كل ما يشار عليه به ولم يفرقوا بين الصبي المميز وغيره ولا نظروا إلى أن عمد الصبي عمد أم خطأ وللنظرين محال وإن كان بالغاً عاقلاً فإن علم حال الطعام فلا شيء على المناول والمقدم بل الآكل هو المهلك نفسه وإلا ففي القصاص قولان‏.‏

وهما جاريان فيما لو غطى رأس بئر في دهليزه ودعا إلى داره ضيفاً وكان الغالب أنه يمر على ذلك الموضع إذا أتاه فأتاه وهلك بها أظهرهما لا قصاص وطرد البغوي القولين فيما لو قال كل وفيه شيء من السم لكنه لا يضرك وفيما إذا جعل السم في جرة ماء على الطريق فشرب منه ومات ولتكن الصورة فيما إذا كان على طريق شخص معين إما مطلقاً وإما في ذلك الوقت وإلا فلا تتحقق العمدية فإذا قلنا لا قصاص وجبت الدية على الأظهر فإن هذا أقوى من حفر البئر وفي قول لا تجب تغليباً للمباشرة ولو دس السم في طعام رجل فأكله صاحبه جاهلاً بالحال ومات فطريقان أصحهما أنه على القولين إذا كان الغالب أنه يأكل منه والثاني القطع بالمنع لأنه لم يوجد منه تغرير ولا حمل على الأكل وإنما وجد منه إتلاف طعامه فعليه ضمانه ولو دسه في طعام نفسه فدخل شخص داره بغير إذنه وأكله فلا ضمان فإن كان الرجل ممن يدخل داره ويأكل انبساطاً فهل يجري القولان في القصاص أم يقطع بنفيه طريقان‏.‏

وقدر المقصود على دفعه وفيه مسائل‏.‏

إحداها جرحه جراحة مهلكة فلم يعالجها المجروح حتى مات وجب القصاص على الجارح لأن مجرد الجراحة مهلك بخلاف ما لو حبسه والطعام عنده فلم يأكل حتى مات لأن الحبس بمجرده ليس مهلكاً‏.‏

الثانية غرقه في ماء فإن أمسكه فيه حتى مات أو تركه وفيه حياة ولكن تألم به وبقي متألماً حتى مات فعليه القصاص وإن ألقاه في الماء فمات به نظر إن كان الماء بحيث لا يتوقع الخلاص منه كلجة البحر التي لا تنفع فيها السباحة وجب القصاص سواء كان الملقى يحسن السباحة أم لا وإن كان يتوقع الخلاص منه فإن كان قليلاً لا يعد مثله مغرقاً بأن كان راكداً في موضع منبسط فمكث الملقى فيه مضطجعاً أو مستلقياً حتى هلك فلا قصاص ولا دية فإنه المهلك نفسه ومثله لو فصده فلم يعصب نفسه حتى مات لأن الدفع موثوق به لكن لو كتفه وألقاه على هيئة لا يمكنه الخلاص فعليه القصاص وإن كان يعد مغرقا كالأنهار الكبار التي لا يخلص منها إلا بالسباحة فإن كان الملقى مكتوفاً أو صبياً أو زمناً أو ضعيفاً أو قوياً لا يحسن السباحة وجب القصاص وإن كان يحسنها فمنعه منها عارض موج أو ريح فلا قصاص ولكنه شبه عمد وإن ترك السباحة بلا عذر حزناً أو لجاجاً ففي وجوب الدية وجهان أو قولان أصحهما لا تجب وقيل لا تجب قطعاً وقيل عكسه ولا قصاص على المذهب وبه قطع الجمهور وقيل يجب إن أوجبنا الدية‏.‏

المسألة الثالثة لو ألقاه في نار لا يمكنه الخلاص منها لعظمها أو كونها في وهدة أو كونه مكتوفاً أو زمناً أو صغيراً فمات فيها أو خرج منها متأثراً متألماً وبقي متألماً إلى أن مات فعليه القصاص وإن أمكنه التخلص فلم يفعل حتى هلك فلا تجب الدية على الأظهر ولا قصاص على الصحيح ولكن يجب ضمان ما تأثر بالنار بأول الملاقاة قبل تقصيره في الخروج سواء كان أرش عضو أو حكومة قطعاً‏.‏

فرع قال الملقي كان يمكنه الخروج مما ألقيته فيه من ماء أو نار فقصر وقال الولي لم يمكنه فأيهما يصدق بيمينه وجهان ويقال قولان لتعارض براءة الذمة مع أن الظاهر أنه لو تمكن لخرج‏.‏

قلت الراجح تصديق الولي‏.‏

والله أعلم‏.‏

فرع كتفه وطرحه على الساحل فزاد الماء وهلك به إن كان في موضع يعلم زيادة الماء فيه كالمد بالبصرة وجب القصاص وإن كان قد يزيد وقد لا يزيد فهو شبه عمد وإن كان بحيث لا يتوقع زيادته فاتفق سيل نادر فخطأ محض‏.‏

الطرف الثالث في اجتماع السبب والمباشرة أو الشرط أما الشرط والمباشرة إذا اجتمعا فالقصاص والدية يتعلقان بالمباشرة فقط فلو حفر بئراً في محل عدوان أو غيره فردى رجل فيها شخصاً فالضمان على المردي دون الحافر ولو أمسك رجلاً فقتله آخر فالضمان على القاتل ولا شيء على الممسك إلا أنه يأثم إذا أمسكه للقتل ويعزر‏.‏

هذا في الحر أما لو كان المقتول عبداً فيطالب الممسك بالضمان باليد والقرار على القاتل ولو أمسك محرم صيداً فقتله محرم آخر فقرار الضمان على القاتل وتتوجه المطالبة على الممسك هذا هو المذهب وفيه خلاف سبق في الحج‏.‏

ولو قدم صبياً إلى هدف فأصابه سهم كان أرسله الرامي قبل تقديم الصبي فقتله فالرامي كالحافر والمقدم كالمردي فعليه القصاص أما إذا اجتمع السبب والمباشرة فهو ثلاثة أضرب‏.‏

أحدها أن يغلب السبب المباشرة بأن أخرجها عن كونها عدواناً مع توليده لها مثل أن شهدوا عليه بما يوجب الحد فقتله القاضي أو جلاده أو بما يوجب القصاص فقتله الولي أو وكيله الضرب الثاني أن يصير السبب مغلوباً بأن رماه من شاهق فتلقاه رجل بسيف فقده نصفين أو ضرب رقبته قبل وصوله الأرض فالقصاص على القاد ولا شيء على الملقي سواء عرف الحال أم لا وفي وجه يجب عليه الضمان بالمال لا بالقصاص والصحيح الأول‏.‏

ولو ألقاه في ماء مغرق كلجة بحر فالتقمه حوت فعلى الملقي القصاص على الصحيح المنصوص وخرج الربيع قولاً إنه لا قصاص لكن تجب دية مغلظة وقيل إن التقمه الحوت قبل الوصول إلى الماء فلا قصاص كمسألة القاد وإلا فيجب والصحيح أنه لا فرق وفي كلام الشيخ أبي حامد وغيره من العراقيين ما يشعر بأن القولين في الإلتقام قبل وصوله الماء والقطع بوجوب القصاص إذا كان بعده وفرق الإمام بين مسألة القد والإلتقام بأن القد قتل صدر من فاعل مختار بفعل وروية فيقطع أثر السبب الأول والحوت يلتقم بطبعه كالسبع الضاري فلم يقطع أثر السبب الأول ولذلك قلنا لو أمسكه فقتله آخر فالقصاص على القاتل دون الممسك ولو أمسكه وهدفه لوثبة سبع ضار فافترسه فالقصاص على الممسك لأن الحيوان الضاري يفعل بطبعه عند التمكن وكأنه آلة لصاحب السبب الأول نازل منزلة ما لو ألقاه في بئر وكان في سفلها نصل منصوب فمات به فالقصاص على الملقي بخلاف ما إذا كان الطارىء فعل صاحب رأي فإنه يبعد تنزيله منزلة الآلة وبني على هذا أنه لو كان في سفل البئر حية عادية بطبعها أو نمر ضار فقتله وجب القصاص على المردي ولو كان هناك مجنون ضار على طبع السباع فكذلك وإن لم يكن ضارياً كان كالعاقل في إسقاط الضمان عن المردي فلم يجعل الهلاك الحاصل بالسبع الضاري كالتلقي بالسيف وأطلق البغوي نفي الضمان إذا افترسه السبع قبل أن يصل إلى الأرض ولا فرق في مسألة القد بين أن يكون القاد ممن يضمن أو ممن لا يضمن كالحربي ولو رفع الحوت رأسه فألقمه فاه لزمه القصاص بلا خلاف ولو ألقاه في ماء غير مغرق فالتقمه حوت فلا قصاص قطعاً لأنه لم يقصد إهلاكه ولم يشعر بسبب الهلاك فأشبه ما لو دفع رجلاً دفعاً خفيفاً فألقاه فجرحه بسكين كان هناك لم يعلم به الدافع فلا قصاص ولكن تجب في الصورتين دية شبه العمد كذا ذكره ابن الصباغ والبغوي وغيرهما وحكاه ابن كج عن الأصحاب ثم قال ينبغي أن لا تتعلق به دية كما لا يتعلق به قصاص‏.‏

الضرب الثالث أن يعتدل السبب والمباشرة كالإكراه فإذا أكره على القتل وجب القصاص على الآمر كما سبق وفي المأمور قولان أظهرهما وجوب القصاص أيضاً لأنه آثم بالإتفاق بخلاف قتل الصائل وسواء في جريان القولين كان المكره سلطاناً أو متغلباً وقيل هما في السلطان فإن كان متغلباً وجب القصاص قطعاً فإن أوجبنا القصاص فآل الأمر إلى الدية فهي عليهما كالشريكين وللولي أن يقتص من أحدهما ويأخذ نصف الدية من الآخر وإن لم نوجب القصاص على المأمور ففي وجوب نصف الدية وجهان أحدهما لا يجب تنزيلا له منزلة الآلة وأصحهما يجب وهو المنصوص وبه قطع الأكثرون فإن أوجبناه وجبت الكفارة وحرم الميراث وهل تكون نصف الدية في ماله أم على عاقلته فيه تردد للإمام‏.‏

قلت الأرجح أنه في ماله والله أعلم‏.‏

وإن قلنا لا دية وجبت الكفارة على الأصح لأنه آثم فإن أوجبنا الكفارة حرم الإرث وإلا فوجهان أصحهما الحرمان‏.‏

فرع إذا أوجبنا القصاص على المكره والمكره جميعاً وكان أحدهما مكافئاً للمقتول دون الآخر وجب القصاص على المكافئ دون الآخر كشريك الأب فإذا أكره عبد حراً على قتل عبد أو ذمي مسلماً على قتل ذمي وجب القصاص على الآمر دون المأمور ولو أكره حر عبداً على قتل عبد أو مسلم ذمياً على قتل ذمي فالقصاص على المأمور ولو أكره الأب أجنبياً على قتل الولد أو الأجنبي الأب فالقصاص على الأجنبي‏.‏

فرع إذا أكره بالغ صبياً مراهقاً على قتل فلا قصاص على الصبي وأما المكره فيبنى على أن عمد الصبي عمد أم خطأ فإن قلنا عمد وهو الأظهر فعليه القصاص وإن قلنا خطأ فلا لأنه شريك مخطىء قال الإمام هذا إذا قلنا يجب القصاص على المكره والمكره وجعلناهما كالشريكين فأما إن قلنا لا قصاص على المكره ففي وجوب القصاص على المكره مع قولنا عمد الصبي خطأ وجهان وأما الدية فجميعها على المكره إن لم نوجب على المكره شيئاً وإن أوجبنا عليه نصفها فنصفها على المكره ونصفها في مال الصبي إن قلنا عمده عمد وإن قلنا خطأ فعلى عاقلته ولو أكره مراهق بالغاً فلا قصاص على المراهق وفي البالغ القولان إن قلنا عمد الصبي عمد وإن قلنا خطأ فلا قصاص قطعاً لأنه شريك مخطىء‏.‏

فرع أكره رجل رجلاً على أن يرمي إلى طلل علم الآمر أنه إنسان وظنه المأمور حجراً أو صيداً أو على أن يرمي سترة وراءها إنسان وعلمه الآمر دون المأمور فلا قصاص على المأمور ويجب على الآمر على الصحيح فإنه آلة له ووجه المنع أنه شريك مخطىء فإن آل الأمر إلى الدية فوجهان أحدهما تجب كلها على الآمر واختاره البغوي والثاني عليه نصفها وعلى عاقلة المأمور نصفها ولو أكرهه على أن يرمي إلى صيد فرمى وأصاب رجلاً فقتله فلا قصاص على واحد منهما لأنهما لم يتعمدا وأما الدية فجميعها على عاقلة الآمر إن لم نضمن المكره وإلا فعلى عاقلة كل واحد منهما نصفها ولو أكرهه على صعود شجرة أو نزول بئر ففعل فزلق وهلك فالصحيح أنه شبه عمد فلا قصاص لأنه لا يقصد به القتل غالباً وهذا هو الذي ذكره الفوراني والبغوي والروياني وقال الغزالي يجب القصاص‏.‏

فرع لو قال اقتل نفسك وإلا قتلتك فقتل نفسه ففي وجوب القصاص‏.‏

قولان أظهرهما لا يجب فإن أوجبناه فعفي عنه على مال وجب جميع الدية وإن لم نوجبه فعليه نصف الدية إن أوجبنا الضمان على المكره وجميعها إن لم نوجبه ويجري القولان فيما لو أكرهه على شرب سم فشربه وهو عالم به وإن كان جاهلاً فعلى المكره القصاص قطعاً ولو قال اقطع يدك وإلا قتلتك فهو إكراه قطعاً ذكره أبو الحسن العبادي‏.‏

فرع قال اقتلني وإلا قتلتك فهذا إذن منه في القتل وإكراه ولو تجرد الإذن فقتله المأذون له ففي وجوب الدية قولان مبنيان على أن الدية تجب للورثة ابتداء عقب هلاك المقتول أم تجب للمقتول في آخر جزء من حياته ثم تنتقل إليهم إن قلنا بالأول وجبت ولم يؤثر إذنه وإلا فلا وهذا الثاني أظهر كذا ذكره البغوي والغزالي وغيرهما لأنه ينفذ منها ديونه ووصاياه ولو كانت للورثة لم يكن كذلك وأما القصاص فلا يجب على المذهب وبه قطع الجمهور وعن سهل الصعلوكي طرد الخلاف فيه ولو قال اقطع يدي فقطعها فلا قصاص ولا دية قطعاً لأنه إتلاف مأذون فيه فصار كإتلاف ماله بإذنه ولو أذن عبد في القتل أو القطع لم يسقط الضمان وفي وجوب القصاص إذا كان المأذون له عبداً وجهان أما إذا انضم الإكراه إلى الإذن فسقوط القصاص أقوى وأما الدية فإن لم نوجبها عند تجرد الإذن فمع الإكراه أولى وإن أوجبناها بني على أن المكره هل عليه نصف الدية إن قلنا نعم فعليه نصفها وإلا فلا‏.‏

واعلم أن الأئمة نقلوا أن المكره على قتله يجوز له دفع الآمر والمأمور جميعاً وأنه لا شيء عليه إذا قتلهما وأن للمأمور دفع الآمر ولا شيء عليه إذا أتى الدفع على نفسه فعلى هذا إذا قتله دفعاً ينبغي أن يحكم بأنه لا قصاص ولا دية بلا تفصيل ولا خلاف وقد أشار إلى هذا أبو الحسن العبادي فقال إذا قال اقتلني وإلا قتلتك فإن لم يقتله فهو استسلام وإن قتله فهو دفع ويمكن أن يقال موضع التفصيل والخلاف ما إذا أمكنه الدفع بغير القتل وإنما لا يلزمه شيء إذا لم يمكنه الدفع بغيره ولو قال اقذفني وإلا قتلتك فقذفه فقيل لا حد كما لو قال اقطعني قال البغوي والصحيح قلت هذا الذي قاله البغوي عجب والصواب أنه لا حد والله أعلم‏.‏

فرع لو قال اقتل زيداً أو عمراً وإلا قتلتك فهذا ليس بإكراه بل تخيير فمن قتله منهما كان مختاراً لقتله وإنما المكره من حمل على قتل معين لا يجد عنه محيصاً وفي الرقم وجه أنه إكراه ونقله المتولي عن اختيار القاضي حسين وليجىء مثله في الطلاق والصحيح الأول فعلى هذا من قتله منهما لزمه القصاص ولا شيء على الآمر غير الإثم‏.‏

فرع لو أكره رجلاً على أن يكره ثالثاً على قتل رابع ففعلا وجب القصاص على الآمر وفي الثاني والثالث القولان لأنهما مكرهان‏.‏

 فصل إذا أمره السلطان بقتل رجل ظلماً

فقتله المأمور نظر إن ظن المأمور أنه يقتله بحق فلا شيء على المأمور لأن الظاهر أنه لا يأمر إلا بحق ولأن طاعة السلطان واجبة فيما لا يعلم أنه معصية واستحب الشافعي رحمه الله أن يكفر لمباشرته القتل وأما الآمر فعليه القصاص أو الدية والكفارة وإن علم المأمور أنه يقتله ظلماً فهل ينزل أمره منزلة الإكراه وجهان ويقال قولان أحدهما لا وإنما الإكراه بالتهديد صريحاً كما في غير السلطان فعلى هذا لا شيء على الآمر سوى الإثم ويلزم المأمور القصاص أو الدية والكفارة والثاني ينزل منزلة الإكراه لعلتين إحداهما أن الغالب من حالة السطوة عند المخالفة والثاني أن طاعته واجبة في الجملة فينتهض ذلك شبهة فإذا نزلناه منزلة الإكراه فعلى الآمر القصاص وفي المأمور القولان في المكره ولو أمره صاحب الشوكة من البغاة كان كأمر إمام العدل لأن أحكامه نافذة ولو أمره غير السلطان بالقتل بغير الحق كالزعيم والمتغلب فقيل نظر إن لم يخف من مخالفته المحذور فعلى المأمور القصاص أو الدية والكفارة وليس على الآمر إلا الإثم ولا فرق بين أن يعتقده حقاً أو يعرف كونه ظلماً لأنه ليس بواجب الطاعة وإن كان يخاف من مخالفته المحذور بأن اعتيد منه ذلك ففيه الخلاف المذكور في الإمام أن المعلوم هل يجعل كالملفوظ به والقياس جعله كالملفوظ وإلى ترجيحه مال الغزالي وغيره وفي أمر السلطان مقتضى ما ذكره الجمهور تصريحاً ودلالة لا ينزل منزلة الإكراه فحصل من هذا أن أمر السلطان من حيث هو سلطان لا أثر له وإنما النظر إلى خوف المحذور‏.‏

فرع لو أمر السيد عبده بقتل رجل ظلماً فقتله فإن كان العبد مميزاً لا يرى طاعة السيد واجبة في كل ما يأمره به فالقصاص على العبد ولا شيء على السيد سوى الإثم فإن عفا أو كان مراهقاً تعلق الضمان برقبته وكذا لو أمره بإتلاف مال فأتلفه وإن كان صغيراً لا يميز أو مجنوناً ضارياً أو أعجمياً يرى طاعة السيد واجبة في كل شيء فهو كالآلة والقصاص أو الدية على السيد‏.‏

وفي تعلق المال برقبة مثل هذا العبد وجهان أحدهما نعم لأنه متلف وأصحهما لا لأنه كالآلة فأشبه ما لو أغرى بهيمته على إنسان فقتلته لا يتعلق بها ضمان ولو أمر عبد غيره فكذلك الحكم إن كان العبد بحيث لا يفرق بين أمر سيده وغيره ويسارع إلى ما يؤمر به فإن قلنا يتعلق الضمان برقبته فبيع فيه فعلى الآمر قيمته للسيد وإذا لم تف قيمته بالواجب فعلى الآمر الباقي وكذا لو كان الآمر السيد وليس هذا التعلق كتعلق الأرش برقبة سائر العبيد ولو أمر أجنبي هذا العبد بقتل نفسه ففعل فعلى الآمر الضمان إن كان صغيراً أو مجنوناً ولا يجب إن كان أعجمياً لأنه لا يعتقد وجوب الطاعة في قتل نفسه بحال لكن لو أمره ببط جراحة أو فتح عرق على مقتل وجب الضمان لأنه لا يظنه قاتلاً فيجوز أن يعتقد وجوب الطاعة هكذا حكي عن النص فإن كان الأجنبي الآمر عبداً فليكن القصاص على هذا التفصيل كما سيأتي نظيره إن شاء الله تعالى‏.‏

لو أمر رجل صبياً أو مجنوناً حراً بقتل شخص فقتله قال البغوي إن كان لهما تمييز فلا شيء على الآمر سوى الإثم وتجب الدية في مال المأمور مغلظة إن قلنا عمده عمد وإن قلنا خطأ فعلى عاقلته مخففة وإن لم يكن لهما تمييز وكانا يسارعان إلى ما أغريا به أو كان المجنون ضارياً فالقصاص أو كمال الدية على الآمر ولياً كان أو أجنبياً ولو أمر أحدهما بقتل نفسه ففعل فعلى الآمر القصاص ولو أن مثل هذا الصبي أو المجنون قتل أو أتلف مالاً من غير أمر أحد ففي تعلق الضمان بهما الخلاف السابق في التعلق برقبة العبد لأنه يشبه إتلاف البهيمة العادية ذكره الشيخ أبو محمد‏.‏

قلت قال أصحابنا لو أمر صبياً لا يميز بصعود شجرة أو نزول بئر ففعل فسقط فهلك فعلى عاقلة الآمر الدية والله أعلم‏.‏

فرع لو أكره رجل عبداً صغيراً مميزاً على قتل فقتل فهل تتعلق برقبته قال الإمام يبنى على أن المكره الحر هل تلزمه الدية إن قلنا نعم فنعم وإلا ففي التعلق برقبته الخلاف السابق في التعليق برقبة العبد الأعجمي لنزوله منزلة الآلة‏.‏

لو أمره الإمام بصعود شجرة أو نزول بئر فامتثل فهلك به فإن قلنا‏:‏ أمره ليس بإكراه فلا ضمان كما لو أمره أحد الرعية وإن قلنا إكراه فإن كان يتعلق بمصلحة المسلمين فالضمان على عاقلة الإمام أو في بيت المال فيه القولان المعروفان في نظائره وإن تعلق به خاصة فالضمان على عاقلته‏.‏

 فصل فيما يباح بالإكراه

الإكراه على القتل المحرم لا يبيحه بل يأثم بالإتفاق إذا قتل وكذا لا يباح الزنى بالإكراه ويباح بالإكراه شرب الخمر والإفطار في رمضان والخروج من صلاة الفرض وإتلاف مال الغير ويباح أيضاً كلمة الكفر وفي وجوب التلفظ بهما وجهان أحدهما نعم حفظاً لنفسه كما يجب أكل الميتة للضرورة والثاني وهو الصحيح لا يجب للأحاديث الصحيحة في الحث على الصبر على الدين واقتداء بالسلف فعلى هذا الأفضل أن يثبت ولا يتلفظ وإن قتل وقيل إن كان ممن يتوقع منه النكاية في العدو أو القيام بأحكام الشرع فالأفضل أن يتلفظ وإلا فالأفضل الإمتناع ولا يجب شرب الخمر عند الإكراه على الصحيح ويمكن أن يجيء مثله في الإفطار في رمضان ولا يكاد يجيء في الإكراه على إتلاف المال ثم إذا أتلف مال غيره بالإكراه فللمالك مطالبة المكره الآمر بالضمان وفي مطالبة المأمور وجهان أحدهما لا يطالب لأنه إتلاف مباح له بالإكراه وأصحهما يطالب لكنه يرجع بالمغروم على الآمر هذا هو المذهب وقيل إن الضمان على المأمور ولا رجوع له وقيل يتقرر الضمان عليهما بالسوية كالشريكين والقول في جزاء الصيد إذا قتله المحرم مكرهاً كالقول في ضمان المال‏.‏

فرع ذكره الرافعي في مسائل منثورة قبل كتاب الديات يجوز للمكره على إتلاف مال ولصاحب المال دفع المكره بما أمكنهما وليس لصاحب المال دفع المكره بل يلزمه أن يقي روحه بماله كما يناول المضطر طعامه‏.‏

 فصل إذا أنهشه حية أو ألدغه عقرباً يقتل غالباً

فقتلته وجب القصاص وإن لم يقتل غالباً فهل هو عمد أم شبه عمد قولان أظهرهما الثاني وإن لم ينهشها ولكن ألقى الحية عليه أو ألقاه عليها أو قيده وطرحه في موضع فيه حيات وعقارب فقتلته فلا قصاص ولا ضمان سواء كان الموضع واسعاً أو ضيقاً لأنه لم يلجئها إلى قتله بل هي قتلته باختيارها فهو كالممسك مع القاتل ولو عرضه لافتراس سبع يقتل غالباً كالأسد والنمر والذئب وهدفه له حتى صار السبع كالمضطر إلى قتله لزمه القصاص نص عليه فإن كان السبع مما لا يقتل غالباً فهو كالحية التي لا تقتل غالباً وإن أرسل عليه السبع أو أغرى به كلباً عقوراً في موضع واسع كالصحراء فقتله أو طرحه في مسبعة أو بين يدي سبع في الصحراء مكتوفاً أو غير مكتوف فقتله فلا قصاص ولا ضمان سواء كان المطروح صغيراً أو كبيراً لأنه لم يلجئه إلى قتله والذي وجد منه ليس بمهلك وهو كالممسك مع القاتل وفي الصبي وجه أنه يجب الضمان ولو أغراه به في موضع ضيق أو حبسه معه في بئر أو بيت فقتله وجب القصاص مكتوفاً كان أو غير مكتوف لأنه إلجاء السبع إلى قتله وليس السبع كالحية حيث لم يفرق فيها بين الموضع الواسع والضيق لأن الحية تنفر من الآدمي والسبع يقصده في المضيق ويتوثب وفي الموضع الواسع لا يقصده قصده في المضيق إنما يقصده دفعه ويمكن التحرز منه والفرار فهذا هو المنصوص والمذهب وبه قطع الجمهور وعن القاضي حسين أن الحية إن كانت تقصد ولا تنفر فهي كالسبع وأنها أنواع مختلفة الطباع وأن السبع إذا كان ضارياً شديد العدو ولا يتأتى الهرب منه في الصحراء وجب القصاص وجعل الإمام هذا بياناً لما أطلقه الأصحاب واستدراكا وأما البغوي وغيره فجعلوا المسألة مختلفاً فيها وحكى ابن كج قولاً أنه لو جمع بينه وبين حية في بيت وجب القصاص كالسبع و قولاً أنه لا يجب في السبع وهما غريبان وحيث أوجبنا القصاص في الحية والسبع فذلك إذا قتل في الحال أو جرح جراحة تقتل غالباً أما إذا جرحه جرحاً لا يقتل مثله غالباً فهو شبه عمد وكأن تلك الجراحة صدرت من المغري وإذا أمكن المغرى عليه الفرار فلم يفر قال الإمام هو كترك السباحة والمجنون الضاري في ذلك كالسبع ولو ربط في داره كلباً عقوراً ودعا إليها رجلاً فافترسه الكلب فلا قصاص ولا ضمان ولم يجعل على الخلاف السابق في حفر البئر في الدهليز وتغطية رأسها لأن الكلب يفترس باختياره ولأنه ظاهر يمكن دفعه بعصا وسلاح‏.‏

الطرف الرابع في اجتماع مباشرتين فإذا صدر فعلان مزهقان من شخصين نظر إن وجدا معاً فهما قاتلان سواء كانا مذففين بأن حز أحدهما رقبته وقده الآخر نصفين أو لم يكونا بأن أجاف كل منهما أو قطعاً عضوين ومات منهما وإن كان أحدهما مذففا دون الآخر فقياس ما سنذكره إن شاء الله تعالى أن يكون المذفف هو القاتل وإن طرأ فعل أحدهما على الآخر فله حالان‏.‏

أحدهما أن يوجد فعل الثاني بعد انتهاء المجني عليه إلى حركة المذبوح إما عقب الفعل الأول لكونه مذففاً وإما لسرايته وتأثيره فالقاتل هو الأول ولا شيء على الثاني سوى التعزير لأنه هتك حرمة ميت فعزر كما لو قطع عضو ميت والمراد بحركة المذبوح الحالة التي لا يبقى معها الإبصار والإدراك والنطق والحركة الإختياريان وقد يقد الشخص وتترك أحشاؤه في النصف الأعلى فيتحرك ويتكلم بكلمات لكنها لا تنتظم وإن انتظمت فليست صادرة عن روية واختيار والحالة المذكورة وهي التي تسمى حالة اليأس لا يصح فيها الإسلام ولا شيء من التصرفات ويصير فيها المال للورثة ولو مات قريب لمن انتهى إليها لم يورث منه ولو أسلم كافر أو عتق رقيق فيها لم يزاحم سائر الورثة وكما لا يصح فيها الإسلام لا تصح فيها الردة هذا هو الصحيح وبه قطع الأصحاب وفي كتاب ابن كج أنها تصح لأن الكافر يوقن حينئذ فإعراض المسلم قبيح وهذا ليس بشيء ومن قطع حلقومه ومريه أو أبينت حشوته من جوفه فقد انتهى إلى حركة المذبوح ولو أصاب الحشوة حرق أو قطع وتيقن موته بعد يوم أو يومين وجب القصاص على قاتله في ذلك الحال‏.‏

الحال الثاني أن يوجد فعل الثاني قبل انتهائه إلى حركة المذبوح فينظر إن كان الثاني مذففاً بأن جرحه الأول وحز الثاني رقبته أو قده فالقاتل هو الثاني وأما الأول فليس عليه إلا القصاص في العضو المقطوع أو المال على ما يقتضيه الحال ولا فرق بين أن يتوقع البرء من الجرح السابق لو لم يطرأ الحز وبين أن يستيقن الهلاك بعد يومين أو نحو ذلك لأن حياته في الحال مستقرة وتصرفاته نافذة وإن لم يكن الثاني مذففاً أيضاً ومات بسرايتهما بأن أجافاه أو قطع الأول يده من الكوع والثاني من المرفق فمات فهما قاتلان لأن القطع الأول قد انتشرت سرايته وألمه ولو شك في الإنتهاء إلى حركة المذبوحين عمل فيه بقول أهل الخبرة‏.‏

فرع المريض المشرف على الموت يجب القصاص على قاتله قال القاضي وغيره سواء انتهى إلى حالة النزع أم لا ولفظ الإمام أن المريض لو انتهى إلى سكرات الموت وبدت أماراته وتعثرت الأنفاس في الشراسيف لا يحكم له بالموت بل يلزم قاتله القصاص وإن كان يظن أنه في مثل حال المقدود وفرقوا بينهما بأن إنهاء المريض إلى تلك الحالة غير مقطوع به وقد يظن به ذلك ثم يشفى بخلاف المقدود ولأن المريض لم يسبق فعل بحال القتل وأحكامه عليه حتى يهدر الفعل الثاني والقد ونحوه بخلافه‏.‏

 فصل قتل إنساناً يظنه على حال

وكان بخلافه فيما إذا قتل إنساناً يظنه على حال وكان بخلافه وفيه مسائل‏.‏

قتل من ظنه كافراً بأن كان عليه زي الكفار أو رآه يعظم آلهتهم فبان مسلماً نظر إن كان ذلك في دار الحرب فلا قصاص قطعاً ولا دية على الأظهر وتجب الكفارة قطعاً وإن كان في دار الإسلام وجبت الدية والكفارة قطعاً وكذا القصاص على الأظهر فإن لم نوجبه فهل الدية مغلظة أم مخففة على العاقلة قولان‏.‏

الثانية قتل من ظنه مرتداً أو حربياً فلم يكن فعليه القصاص فإن عهده مرتداً أو ظن أنه لم يسلم وكان أسلم فالنص وجوب القصاص ونص فيما لو عهده ذمياً أو عبداً فقتله ظاناً أنه لم يسلم ولم يعتق فبان خلافه أنه لا قصاص فقيل في الجميع قولان وقيل بظاهر النصين لأن المرتد يحبس فلا يخلى فقاتله مقصر بخلاف الذمي والعبد وقيل يجب القصاص في الجميع لأنه ظن لا يبيح القتل والمذهب وجوب القصاص في الجميع وإن أثبتنا الخلاف كما لو علم تحريم القتل وجهل وجوب القصاص ولو عهده حربياً فظن أنه لم يسلم فقيل كالمرتد وقيل لا قصاص قطعاً لأن المرتد لا يخلى والحربي يخلى بالمهادنة ويخالف العبد والذمي فإنه ظن لا يفيد الحل والاهدار بخلاف الحربي ولو ظنه قاتل أبيه فقتله فبان غيره وجب القصاص على الأظهر لأنه يلزمه التثبت ولم يعهده قاتلاً حتى يستصحبه ولو قال تبينت أن أبي كان حياً حين قتلته وجب القصاص قطعاً وحيث قلنا لا قصاص في هذه الصور فقال ظننته كافراً أو رقيقاً فقال الولي بل علمته مسلماً حراً فالقول قول القاتل لأنه أعرف ونقل الغزالي في موضع القولين فيما إذا قال ظننته قاتل أبي طريقين أحدهما موضعهما إذا تنازعا أما إذا صدقه الولي فلا قصاص قطعاً والثاني طرد القولين في الحالين لأنه الثالثة ضرب مريضاً ضرباً يقتل المريض دون الصحيح فمات منه فإن علم مرضه فعليه القصاص قطعاً وكذا إن جهله على الصحيح لأن جهله لا يبيح الضرب‏.‏

الركن الثاني القتيل‏.‏

وشرط وجوب القصاص كونه معصوم الدم بالإسلام أو الجزية أو الأمان فالحربي مهدر والمرتد مهدر في حق المسلم وأما في حق ذمي ومرتد آخر ففيه خلاف يأتي قريباً إن شاء الله تعالى ومن عليه قصاص إذا قتله غير مستحقه لزمه القصاص والزاني المحصن إن قتله ذمي فعليه القصاص وإن قتله مسلم فلا على الأصح المنصوص‏.‏

قلت قال القاضي أبو الطيب في تعليقه الخلاف إذا قتل قبل أن يأمر الإمام بقتله فإن قتل بعد أمر الإمام بقتله فلا قصاص قطعاً والله أعلم‏.‏

فرع في فتاوى القفال أن من ترك الصلاة عمداً حتى خرج وقتها وكان يؤمر بفعلها فلا يفعلها فقتله إنسان فلا قصاص وليكن هذا جواباً على الأصح المنصوص في الزاني المحصن قال فلو جن قبل فعلها لم يقتل في حال الجنون فلو قتله حينئذ رجل لزمه القصاص وكذا لو سكر ولو جن المرتد أو سكر فقتله رجل فلا قصاص لقيام الكفر‏.‏

وشرطه أن يكون ملتزماً للأحكام فلا قصاص على صبي ولا مجنون كما لا قصاص على النائم إذا انقلب على شخص لأنه ليس لهما أهلية الإلتزام ومن يقطع جنونه له حكم المجنون في حال جنونه وحكم العاقل في حال عقله ومن لزمه قصاص بإقرار أو بينة ثم جن استوفي منه حال جنونه لأنه لا يقبل الرجوع بخلاف ما لو أقر بحد ثم جن لا يستوفى منه والمذهب وجوب القصاص على السكران ومن تعدى بشرب دواء مزيل للعقل وفيه خلاف سبق في الطلاق‏.‏

فرع لو قال القاتل كنت يوم القتل صغيرا وقال الولي بل بالغاً صدق القاتل بيمينه لأن الأصل الصغر وهذا بشرط الإمكان ولو قال أنا الآن صغير صدق ولا قصاص ولا يمين عليه لأن اليمين لإثبات المحلوف عليه ولو ثبت صباه لبطلت يمينه ولو قال كنت مجنوناً عند القتل وكان عهد له جنون صدق وإلا فلا لأن الأصل السلامة ولو اتفقا على أنه كان زائل العقل وقال القاتل كنت مجنوناً وقال الوارث بل سكران صدق القاتل ولو أقام القاتل بينة أنه كان يوم القتل مجنوناً وأقام الوارث بينة أنه كان حينئذ عاقلاً تعارضتا‏.‏

فرع وجوب القصاص على المرتد والمعصوم يجب القصاص على المرتد والمعصوم لالتزامه الأحكام ولا يجب على الحربي كما لا يضمن المال لعدم التزامه هذا هو الصحيح وبه قطع الجمهور وقال الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني يلزم الحربي ضمان النفس والمال لأنه مخاطب بفروع الشرع قال أبو الحسن العبادي ويعزى هذا إلى المزني في المنثور‏.‏

 باب ما يشترط مساواة القتيل القاتل

فيه لوجوب القصاص وما لا يؤثر اختلافهما فيه‏.‏

الخصال التي يفضل القاتل القتيل بها كثيرة ولا يؤثر منها في منع القصاص إلا ثلاث وهي الإسلام والحرية والولادة فإن استوى القاتل والمقتول في عدم الثلاثة أو وجود ما يمكن وجوده جرى القصاص بينهما وإلا قتل المفضول بالفاضل ولا عكس‏.‏

الخصلة الأولى الإسلام فلا يقتل مسلم بكافر حربياً كان أو ذمياً أو معاًهدا ويقتل الذمي والمعاهد بالمسلم ويقتل الذمي بالذمي وإن اختلفت ملتهما كيهودي ونصراني ولو قتل ذمي ذمياً ثم أسلم القاتل اقتص منه ولو جرح ذمي ذمياً أو معاهداً وأسلم الجارح ثم مات المجروح بالسراية وجب القصاص على الأصح عند الجمهور وقطع به جماعة وهذا الخلاف في قصاص النفس فإن جرح جرحاً يوجب قصاصاً كقطع طرف ثم أسلم القاطع ثم سرى وجب القصاص في الطرف قطعاً ثم إذا طرأ إسلام القاتل بعد القتل أو بعد قطع الطرف استوفى الإمام القصاص بطلب الوارث ولا يفوضه إليه حذاراً من تسليط الكافر على المسلم إلا أن يسلم فيفوضه إليه ولو قتل مسلم ذمياً ثم ارتد أو جرحه ثم ارتد ثم مات المجروح فلا قصاص لعدم المكافأة حالة الجناية ولو قتل ذمي مسلماً ثم أسلم لم يسقط عنه القصاص ولو قتل عبد مسلم عبداً مسلماً لكافر فهل يثبت القصاص وجهان أحدهما وجوب القصاص وبه قال الشيخ أبو حامد والماوردي وأصحهما عند المتأخرين وهو اختيار القاضي أبي الطيب والقفال لا قصاص لأنه لا يقتل بجزء الحرية جزء الحرية وبجزء الرق جزء الرق بل يقتل جميعه بجميعه ولهذا لو كان القتل خطأ أو آل الأمر إلى المال وأوجبنا نصف الدية ونصف القيمة مثلاً لا نقول نصف الدية في مال القاتل ونصف القيمة في رقبته بل يجب ربع الدية وربع القيمة في ماله وربع الدية وربع القيمة في رقبته وهذا متفق عليه ولو وقع الإستيفاء شائعاً لزم قتل البعض الحر بالبعض الحر والرقيق معاً‏.‏

فرع قتل عبد مسلم حراً ذمياً أو حر ذمي عبداً مسلماً أو قتل كافر ابنه المسلم أو الإبن المسلم أباه الكافر لا قصاص لأن الحر والمسلم والأب لا يقتل بمفضوله‏.‏

فرع قتل المكاتب أباه وهو يملكه فلا قصاص على الأصح ولو قتل عبداً له غير أبيه فلا قصاص على المذهب وقيل وجهان لأن المكاتب عبد ما بقي عليه درهم‏.‏

قلت إذا أوجبنا القصاص استوفاه سيد المكاتب لأنهما عبدان للسيد قتل أحدهما الآخر فهو كما لو قتله أجنبي والله أعلم‏.‏

الخصلة الثالثة الولادة فلا قصاص على والد يقتل ولده والأم كالأب وكذلك الأجداد والجدات وإن علوا من قبل الأب والأم جميعاً وحكى ابن القاص وابن سلمة قولاً في الأجداد والجدات وهو شاذ منكر قال الإمام هذا لايقبله الأصحاب منصوصاً ولا مخرجاً ولو حكم قاض بقتل الوالد بولده قال ابن كج ينقض حكمه وليكن هذا فيما يوافقنا فيه مالك رحمه الله فإنه روي عنه أنه إن أضجعه وذبحه فعليه القصاص وإن حذفه بالسيف فلا لاحتمال قصده التأديب وعندنا لا فرق‏.‏

فرع يقتل الولد بالوالد وكذا سائر المحارم بعضهم ببعض‏.‏

فرع قتل الأب الرقيق عبد ابنه فلا قصاص لأن قصاصه لإبنه ولو قتل الإبن الرقيق عبد أبيه فللأب القصاص‏.‏

فرع لو قتل من يرثه ولد القاتل لم يجب القصاص مثاله قتل زوجة ابنه أو زوجته وله منها ولد أو قتلت أم الولد سيدها وله منها ولد ولو ثبت عليه قصاص فورث ولده القصاص أو بعضه بأن قتل أبا زوجته ثم ماتت الزوجة ولها منه ولد أو قتل ابن عتيق ولده ثم مات العتيق وورثه الولد فلا قصاص وكذا لو ورث القاتل القصاص بأن قتل أحد الإبنين أباه ثم مات الإبن الآخر فورثه القاتل‏.‏

فرع تداعى رجلان مولوداً مجهولاً ثم قتله أحدهما أو قتلاه فلا قصاص في الحال فإن ألحقه القائف بأحدهما وكانا مشتركين في القتل فلا قصاص على الذي ألحق به ويقتص من الآخر وحكى ابن كج وجهاً شاذاً أنه لا يقتص من الآخر لأن إلحاق القائف مبني على الأشباه وهو ضعيف فلا يرتب عليه القصاص الذي يسقط بالشبهات وإن كان القاتل أحدهما فألحقه بالآخر اقتص منه وكذا لو ألحقه بغيرهما ويعود فيه وجه ابن كج وإن رجعا عن الدعوة لم يقبل رجوعهما لأنه صار ابناً لأحدهما وفي رجوعه إبطال حق الولد وإن رجع أحدهما وأصر الآخر فهو ابن الآخر فيقتص من الراجع إن اشتركا في قتله أو إن انفرد هو بقتله هذا إذا لحق المولود أحدهما بالدعوة أما إذا لحق بالفراش بأن نكحت معتدة وأتت بولد يمكن كونه من الأول ومن الثاني أو فرض وطء شبهة فإنما يتعين أحدهما بإلحاق القائف أو بانتساب المولود بعد بلوغه فلو نفاه أحدهما فهل يتعين للثاني أم يبقى الإبهام حتى يعرض على القائف أو ينتسب قولان أظهرهما ثانيهما فإذا ألحقه القائف بأحدهما اقتص من الآخر إن انفرد بقتله أو شارك فيه وإن ألحقه بأحدهما أو انتسب بعد البلوغ فقتله الذي لحقه لم يقتص منه فإن أقام الآخر بينة بنسبه لحقه واقتص من الأول‏.‏

فرع أخوان لأب وأم قتل أحدهما الأب والآخر الأم فلهما حالان أحدهما أن يقتلاهما معاً والثاني على التعاقب والاعتبار في المعية والتعاقب بزهوق الروح لا بالجرح‏.‏

الحال الأول أن يقتلاهما معاً فكل واحد يستحق القصاص على الآخر فإن عفا أحدهما فللمعفو عنه أن يقتص من العافي وإن لم يعف قدم للقصاص من خرجت قرعته وإذا استوفى أحدهما بقرعة أو بالمبادرة بلا قرعة فإن قلنا القاتل بحق لا يحرم الميراث ولم يكن المقتص محجوباً سقط القصاص عنه لأنه ورث القصاص المستحق على نفسه أو بعضه وإن قلنا يحرم الميراث وهو المذهب أو كان هناك من يحجبه فلوارث المقتص منه أن يقتص من المبادر‏.‏

الحال الثاني أن يتعاقب القتلان فإن كانت الزوجية باقية بين الأب والأم فلا قصاص على القاتل أولاً ويجب على القاتل الثاني فإذا اقتص القاتل الأول من الثاني وقلنا القاتل بحق يحرم الميراث أو كان المقتص محجوباً فلورثة المقتص منه نصيبه من دية القتيل الأول يطالبون به القاتل الأول وإن لم تكن الزوجية باقية بين الأب والأم فلكل واحد منهما حق القصاص على الآخر وهل يقدم بالقرعة أم يقتص من المبتدىء بالقتل وجهان ميل القاضي حسين والإمام إلى الأول وبالثاني أجاب الروياني وغيره‏.‏

قلت لم يعبر عن ترجيح الوجهين بما ينبغي فقد قطع بالإقراع الشيخ أبو حامد والمحاملي وابن الصباغ وغيرهم وقطع بالثاني القاضي أبو الطيب والبغوي وغيرهما ونقله الإمام عن الأصحاب مع أنه رجح الإقراع والأرجح ما نقله عن الأصحاب والله أعلم‏.‏

ولو بادر من أردنا الإقتصاص منه بالقرعة أو لابتدائه بالقتل عاد النظر في أن القاتل هل يحرم الميراث وأنه هل خلف المقتول من يحجبه كما سبق وحكى الروياني عن الأصحاب فيما إذا وقع القتلان معاً وأقرعنا للإبتداء فخرجت القرعة لأحدهما أنه لو وكل من خرجت قرعته وكيلاً جاز لأنه يقتص له في حياته ولو وكل الآخر لم يجز لأنه يقتص له بعد قتله ولا تبقى الوكالة حينئذ قال وعندي أن توكيله صحيح أيضاً ولهذا لو بادر وكيله فقتل لم يلزمه شيء لكن إذا قتل موكله بطلت الوكالة‏.‏

قلت ولو وكل كل واحد من الأخوين وكيلاً قبل الإقراع صح ثم يقرع بين الوكيلين فإذا اقتص فرع أربعة إخوة قتل الثاني أكبرهم ثم الثالث أصغرهم ولم يخلف القتيلان غير القاتلين فللثاني أن يقتص من الثالث ويسقط عن الثاني القصاص لأنه ورث ما كان الصغير يستحقه عليه‏.‏

فرع قتل زيد ابناً لعمرو وعمرو ابنا لزيد وكل واحد من الأبوين بالإرث فلكل واحد منهما القصاص على الآخر وحكى ابن كج عن ابن أبي هريرة وابن القطان أنه لا قصاص بينهما بل يقع التقاص والصحيح الأول ولا بد من مجيء هذا الوجه في الأخوين‏.‏

قلت قد صرح صاحب البيان بنقل الوجه في الأخوين عن ابن اللبان والله أعلم‏.‏

فرع لو شهد الابن على أبيه بما يوجب القتل قبلت شهادته على الصحيح ونقل ابن كج عن ابن أبي هريرة أنها لا تقبل‏.‏

فرع يكره للجلاد قتل والده حداً وقصاصاً‏.‏

وفيه مسائل‏.‏

إحداها يقتل يقتل الذمي بالمعاهد وبالعكس كما يستويان في الدية وفي الأول احتمال للإمام ولو أسر الإمام حربياً بالغاً فقتله ذمي قبل أن يرى الإمام إرقاقه أو غيره فلا قصاص لأنه على حكمه الذي كان حتى يرقه الإمام‏.‏

الثانية يقتل الرجل بالمرأة وبالخنثى وبالعكس كما يقتل العالم بالجاهل والشريف بالخسيس والشيخ بالصبي والشاب وبالعكس‏.‏

فرع فيما لو قطع ذكر خنثى مشكل وأنثياه وشفراه‏.‏

وهو مبني على أصلين أحدهما أنه هل يجب القصاص في شفري المرأة فيه خلاف والثاني أن العضو الأصلي لا يقطع بزائد ويقطع الزائد بالزائد إذا اتحد المحل وسنذكر الأصلين إن شاء الله تعالى فإذا قطع رجل ذكر خنثى مشكل وأنثييه وشفريه فلا قصاص في الحال لاحتمال أنه إمرأة ثم إن صبر المقطوع إلى التبين فذاك فإن بان ذكراً اقتص في الذكر والأنثيين وأخذ حكومة الشفرين وإن بان أنثى فلا قصاص وله دية الشفرين وحكومة الذكر والأنثيين وإن لم يصبر نظر إن قال عفوت عن القصاص وطلب حقه من المال أعطي المستيقن وهو دية الشفرين وحكومة الذكر والأنثيين ثم إن بان أنثى فمعه حقه وإن بان ذكراً فله مائتان من الإبل عن الذكر والأنثيين وله حكومة الشفرين فيحسب ما كان معه ويعطى الباقي وحكى الإمام وجهاً أنه إنما يعطى في الإبتداء حكومة كل عضو لأنه المتيقن في ذلك العضو فلا نوجب دية الشفرين قال وهذا ضعيف لأن استحقاق القدر المذكور متيقن وإن لم تتحقق جهته وإنما يصح ذلك إذا تعدد الجاني فقطع قاطع ذكره وأنثييه وآخر شفريه وعفا عن القصاص فلا نوجب على كل واحد إلا حكومة ما قطعه وأما إذا لم يعف عن القصاص وطلب ما يجب له من المال مع القصاص فوجهان أحدهما لا نعطي شيئاً قاله ابن أبي هريرة والقفال لأنا لا ندري ما الواجب وأصحها يعطى المستيقن مع القصاص وفي قدره ثلاثة أوجه أحدها أقل الحكومتين من حكومة الشفرين على تقدير الذكورة وحكومة الذكر والأنثيين على تقدير الأنوثة والثاني حكومة العضو المقطوع آخراً لأنه قطعه والدم سائل من الأول فحكومته أقل وأصحهما يعطى أقل الأمرين من حكومة الشفرين بتقدير الذكورة وحكومة الذكر والأنثيين مع دية الشفرين أما إذا قطعت إمرأة ذكر الخنثى وأنثييه وشفريه فإن صبر إلى التبين توقفنا كما في الرجل فإن بان ذكراً فله ديتان للذكر والأنثيين وحكومة الشفرين وإن بان أنثى فلها حكومة الذكر والأنثيين والقصاص في الشفرين إن أجرينا فيهما القصاص وإلا فلها ديتهما أيضاً وإن لم يصبر بني على أن القصاص هل يجري في الشفرين إن قلنا نعم قيست الصورة بما ذكرنا في الرجل فإن عفا عن القصاص سلم إليه دية الشفرين وحكومة الذكر والأنثيين وإن لم يعف ففي وجه لا يعطى شيئاً وفي وجه يعطى أقل الحكومتين وفي وجه حكومة المقطوع آخراً وفي وجه حكومة الذكر والأنثيين ليوقع القصاص في الشفرين وإن قلنا لا يجري القصاص فيهما فالحكم كما لو أجريناه فعفا ولو قطع رجل ذكره وأنثييه وإمرأة شفريه ولم يعف لم يطالب واحد منهما بمال لتوقع القصاص في حق كل واحد بناء على جريان القصاص في الشفرين فإن منع فلا يوقع فيهما فتجب حكومتهما على المرأة وإن قطع رجل شفريه وإمرأة ذكره وأنثييه فلا مجال للقصاص فيطالب كل واحد بحكومة ما قطع ولو قطع مشكل جميع ذلك من مشكل فلا قصاص في الحال فإن بانا ذكرين أو أنثيين قطع الأصلي بالأصلي والزائد بالزائد إن تساوى الزائدان وإلا ففي الزائد الحكومة وإن بان أحدهما ذكراً والآخر أنثى فقد سبق حكمه ولو عفا المقطوع قبل التبين دفع إليه المتيقن وهو دية الشفرين وحكومة الذكر والأنثيين وإن لم يعف فقد نقل الإمام وأبو الحسن العبادي أنه يدفع إليه أقل الحكومتين والصحيح أنه لا يدفع إليه شيء في الحال لأن القصاص متوقع في الجميع وبيان حال الخنثى قد يكون بشيء من العلامات الحسية كالبول والمني ونحوهما فحكمه كما ذكرنا وقد يكون بالرجوع إلى قوله وإخباره عن ميله إلى الرجال أو النساء فإن أخبر عن حاله ثم جني عليه اعتمدنا قوله فإذا قال أنا رجل ثم قطعه رجل أوجبنا القصاص وإن جني عليه ثم قال أنا رجل فهل يقبل قوله لإيجاب القصاص ولإيجاب دية الذكر والأنثيين فيه وجهان أحدهما نعم كما قبل الجناية وأصحهما على ما ذكره القفال والإمام المنع لأنه متهم وشبهوا بما إذا شهد برؤية هلال شوال فردت شهادته ثم أكل لا يعزر ولو أكل ثم شهد عزر للتهمة وبما لو ثبت بشهادة رجل وامرأتين أنه غصب ثم قال إن كنت غصبت فامرأتي طالق يقع الطلاق ولو قال أولاً إن غصبت فهي طالق فشهد رجل وامرأتان بغصبه لا تطلق على الأصح ولو اختلف الجاني والمقطوع فقال الجاني أقررت بأنك إمرأة فلا قصاص لك وقال بل قلت إني رجل فقولان وأظهرهما القول قول الجاني لأن الأصل براءته من القصاص وهذا نصه في مواضع والثاني قول المقطوع لأنه أعرف بحاله‏.‏

فرع لو قطع الخنثى المشكل ذكر رجل وأنثييه وقف فإن بان ذكراً اقتص منه وإن بان أنثى فعليه ديتان ولا قصاص فإن طلب منه مالاً قبل التبين ولم يعف لم يعط لأن القصاص متوقع‏.‏

فرع لو قطعت يد الخنثى وجب القصاص سواء قطعها رجل أو امرأة فلو آل الأمر إلى المال لم يؤخذ إلا اليقين وهو نصف دية المرأة وكذا لو قتل لا تؤخذ إلا دية إمرأة‏.‏

المسألة الثالثة إذا قتلت الجماعة واحداً قتلوا به سواء قتلوه بمحدد أو مثقل أو ألقوه من شاهق أو في بحر أو جرحوه جراحات مجتمعة أو متفرقة وأثبت ابن الوكيل قولاً أن الجماعة لا يقتلون بالواحد ونقل الماسرجسي عن القفال قولاً قديماً أن الولي يقتل واحداً من الجماعة أيهم شاء ويأخذ حصة الآخرين من الدية ولا يقتل الجميع ويكفي للزجر كون كل واحد منهم خائفاً من القتل وهذان القولان شاذان واهيان والمشهور قتل الجماعة بالواحد ثم للولي أن يقتل جميعهم وله أن يقتل بعضهم ويأخذ حصة الباقين من الدية وله أن يقتصر على الدية فتكون على جميعهم دية واحدة موزعة على عددهم سواء كانت جراحة بعضهم أفحش أو عدد جراحات بعضهم أكثر أم لم يكن شيء من ذلك وسواء كان لجراحة بعضهم أرش مقدر أم لم يكن ثم إذا كانت الجماعة عشرة مثلاً فالولي يستحق دم كل واحد بكماله وعن الحليمي أنه إنما يستحق عشر دم كل واحد لكنه يجوز قتله لأنه لا يمكن استيفاؤه إلا باستيفاء الباقي والصواب الأول وبه قطع الجمهور قال الإمام قول الحليمي بعيد وكيف يريق تسعة أعشار دم غير مستحقة لتحصيل عشر‏.‏

المسألة الرابعة إذا قتل واحد جماعة يقتل بأحدهم ووجبت دية الباقين في ماله وسيأتي القول فيمن يقتل به في بابه إن شاء الله تعالى ولو قطع أيدي جماعة قطع بواحد وللباقين الدية وحكى الروياني وجهاً أنه إذا وقعت الجنايات معاً قتل أو قطع بهم جميعاً ويرجع كل واحد من المستحقين إلى حصته من الدية وهذا شاذ ضعيف هذا إذا كان القاتل حراً وقتل الجماعة في غير المحاربة فإن كان عبداً أو قتل في المحاربة فسيأتي إن شاء الله تعالى‏.‏

 فصل في اجتماع سببين مختلفين في اقتضاء القصاص

الجنايات الصادرة من جماعة الواردة على واحدة المستعقبة موته إن كانت بحيث يجب القصاص لو انفردت كل واحدة وجب القصاص على الشركاء كما سبق وإلا فإما أن لا يجب القصاص بواحدة منها لتقاعد الفعل عن إيجاب القصاص بأن قتلوه خطأ أو لعدم الكفاءة بأن قتل حران عبداً فلا قصاص وإما أن يجب القصاص ببعضها دون بعض ولعدم الوجوب في حق البعض أسباب أحدها أن تكون جناية بعضهم ضعيفة لا تؤثر في الزهوق كالخدشة الخفيفة فلا اعتبار بها وكأنه لم توجد سوى الجنايات الباقية الثاني أن يغلب بعضها بقوته بحيث يقطع نسبة الزهوق إلى سائر الجنايات بأن جرحه جماعة ثم حز رقبته آخر فقصاص النفس على الحاز وأما الأولون فجارحون يتعلق بفعلهم مقتضاه من قصاص أو دية مغلظة أو مخففة وقد سبق بيانه في الطرف الرابع من الركن الأول وعد من نظائره أن يصعد به على كرسي ويربط في عنقه حبلاً ويشده إلى فوق فيجيء آخر فينحي ما تحت قدميه فالقاتل هو المنحي‏.‏

الثالث أن تندمل بعض الجراحات ثم يوجد الباقي فعلى من اندملت جراحته ما تقتضيه جراحته ولا يلزمه قصاص النفس لأن القتل هو الجراحة السارية وإذا جرحه اثنان متعاقبان وادعى الأول الإندمال وأنكر الولي فلا قصاص على الأول وإذا عفا عن الثاني لم يأخذ منه إلا نصف الدية وإنما يأخذ منه كمال الدية إذا قامت بينة بالإندمال الرابع أن يكون فعل أحدهما خطأ بأن جرحه أحدهما عمداً والآخر خطأ فلا قصاص على واحد منهما وعلى عاقلة المخطىء نصف دية الخطأ وفي مال العامد نصف دية العمد إن كانت جناية لا توجب قصاصاً أو آل الأمر إلى الدية فإن قطع طرفاً فعليه قصاصه وكذا لو جرح أحدهما عمداً والآخر شبه عمد لا قصاص على واحد منهما وتجب نصف دية شبه العمد على عاقلة صاحبه وحكى الروياني في جمع الجوامع أنه قيل إن للشافعي رحمه الله قولاً أنه يجب القصاص على شريك المخطىء ذكره المزني في العقارب وتمنى الإمام أن يكون هذا قولاً في المذهب والمشهور المنصوص في كتب الشافعي وقطع به الأصحاب أنه لا قصاص‏.‏

الخامس أن يمتنع القصاص من بعضهم لمعنى فيه فله حالان أحدهما أن يكون فعل من لا قصاص عليه مضموناً بأن شارك الأب أجنبياً في قتل الولد فعلى الأجنبي القصاص وعلى الأب نصف الدية المغلظة ومثله لو شارك حر عبداً في قتل عبد أو مسلم ذمياً في قتل ذمي لا قصاص على الحر والمسلم ويجب على العبد والذمي ولو جرح ذمي ذمياً ثم أسلم المجروح فجرحه مسلم أو جرح عبد عبداً ثم عتق المجروح فجرحه حر ومات منهما فعليهما القصاص لأن كل واحد لو انفرد بجنايته لزمه القصاص‏.‏

الحال الثاني أن لا يكون مضمونا بأن جرح حربي ومسلم مسلماً ومات منهما أو قطعت يد إنسان في سرقة أو قصاص ثم جرحه رجل عدواناً أو جرح مسلم مرتداً أو حربياً ثم أسلم فجرحه غيره أو جرح ذمي حربياً ثم عقدت الذمة للمجروح فجرحه ذمي آخر أو جرح صائلاً ثم جرحه غيره ففي وجوب القصاص في الصور قولان أظهرهما الوجوب كشريك الأب والثاني لا بل عليه نصف الدية ولو جرحه سبع أو لدغته عقرب أو حية وجرحه مع ذلك رجل فطريقان أشهرهما طرد القولين والثاني القطع بأن لا قصاص وهذا أصح عند القاضي حسين والإمام والغزالي وموضع الطريقين فيما يقتضيه كلام الإمام أن يقصد السبع الجراحة فأما إذا وقع السبع عليه بلا قصد فلا قصاص قطعاً وقال البغوي لا فرق بين أن يقصده السبع بالجرح أم لا ففيه الطريقان ثم الخلاف فيما إذا كان جرح السبع بحيث يحصل منه الموت غالباً وإلا فشريكه شريك الجارح شبه عمد ولو جرح رجل عبده وجرحه عبد أو عتق فجرحه عبد أو حر ثم مات منهما ففي وجوب القصاص على شريك السيد طريقان أشهرهما طرد القولين والثاني القطع بالوجوب لأن فعل السيد مضمون بالكفارة فشريكه شريك عامد ضامن كشريك الأب ولو جرح نفسه وجرحه غيره بني على أن قاتل نفسه هل عليه كفارة إن قلنا نعم فكشريك السيد وإلا فكشريك الحربي وكيف كان فالمذهب الوجوب ولو رمى اثنان سهمين إلى مسلم في صف الكفار وقد علم أحدهما أنه مسلم ولم يعلم الآخر أن هناك مسلماً فوجوب القصاص على العالم مبني على الخلاف في شريك السيد لأن فعل الجاهل مضمون بالكفارة‏.‏

فرع وجوب القصاص على شريك الصبي وجوب القصاص على شريك الصبي والمجنون العامدين يبنى على أن عمدها عمد أم خطأ إن قلنا عمد وهو الأظهر وجب وإلا فلا كذا أطلقه مطلقون وعن القفال وغيره أن الخلاف في صبي يعقل عقل مثله وفي مجنون له نوع تمييز فأما من لا تمييز له بحال فعمده خطأ وشريكه شريك مخطىء قطعاً وعلى هذا جرى الأئمة منهم البغوي‏.‏

فرع جرح شخص شخصاً جراحتين إذا جرح شخص شخصاً جراحتين إحداهما عمد والأخرى خطأ فمات بهما فلا قصاص في النفس لأن الزهوق لم يحصل بعمد محض وتجب نصف الدية المغلظة في ماله ونصف المخففة على عاقلته وقد يتعلق القصاص بجراحة العمد بأن تكون قطع طرف وكذا لو جرح حربياً أو مرتداً فأسلم فجرحه ثانياً أو قطع يد إنسان قصاصاً أو بسرقة ثم جرحه أو قطع يده الأخرى ظلماً أو قطع الصائل دفعاً فلما ولى جرحه أو قطع يده الأخرى فلا قصاص في النفس ويثبت موجب الجراحة الواقعة في حال العصمة من قصاص أو دية مغلظة وكذا لو جرح العادل الباغي في القتال ثم جرحه بعده أو السيد عبده ثم جرحه بعد عتق أو جرح حربي مسلماً ثم أسلم الجارح وجرحه ثانياً ولو قطع مسلم يد ذمي فأسلم فقطع يده الأخرى أو حر يد عبد فعتق فقطع يده الأخرى ومات بالسراية فلا قصاص في النفس ويجب قصاص الطرف المقطوع بعد الإسلام والحرية فإن اقتص في الطرف أخذ نصف الدية وإن عفا أخذ دية حر مسلم ولو قطع ذمي يد ذمي فأسلم القاطع ثم قطع يده الأخرى ومات بالسراية فلا قصاص في النفس ويجب قصاص الطرف المقطوع أولاً فإن عفا المستحق أخذ دية ذمي‏.‏

فرع داوى المجروح نفسه بسم قاتل إذا داوى المجروح نفسه بسم قاتل بأن شربه أو وضعه على الجرح فإن كان السم مذففاً فالمجروح قاتل نفسه وليس على الجارح قصاص في النفس وإنما عليه أرش جراحته أو القصاص إن تعلق بها قصاص طرف وإن كان السم مما لا يقتل غالباً فالجارح شريك لصاحب شبه عمد فلا قصاص عليه في النفس بل عليه نصف الدية المغلظة أو القصاص في الطرف إن اقتضته وإن كان السم قاتلاً غالباً فإن لم يعلم المجروح ذلك فهو كالحالة الثانية وإن علمه ففي وجوب القصاص على الجارح طريقان أصحهما أنه كشريك جارح نفسه والثاني لا يجب قطعاً لأنه شريك مخطىء لكونه قصد التداوي لا الإهلاك

فرع خاط جرحه في لحم ميت لو خاط جرحه في لحم ميت لم يؤثر لأنه لا يؤلم وعلى الجارح القصاص أو كمال الدية وإن خاطه تداوياً في لحم حي وكان ذلك مما يقتل غالباً ففي وجوب القصاص على الجارح الطريقان في التداوي بالسم القاتل غالباً وفي الصورتين لا فرق بين أن يفعل المجروح ذلك بنفسه أو يأمر به ولا شيء على المأمور ولو استقل به غيره فهو والأول جارحان متعديان ولو تولاه الإمام في مجروح فإن كان بالغاً رشيداً فكذلك لأنه لا ولاية له عليه وإن كان صغيراً أو مجنوناً فداواه لمصلحته فمات ففي وجوب القصاص على الإمام قولان كما لو قطع سلعة من صغير أو مجنون فمات منه فإن قلنا لا قصاص وجب نصف دية مغلظة وهل هي على عاقلة الإمام أم في بيت المال فيه ال قولاً ن المعروفان وحكم الجارح يبنى على الخلاف فيما إذا تولاه المجروح بنفسه فإن جعلنا وجوب القصاص عليه على الخلاف في مشاركة العامد الذي لا يضمن لم يجب هنا القصاص لأنه شارك من فعله مضمون بالقصاص أو الدية وإن نزلنا المجروح منزلة المخطىء لقصده التداوي ولم نوجب القصاص على شريكه فكذا هنا ولو قصد الخياطة في لحم ميت فغلط وخاط في حي فالجارح شريك مخطىء قطعاً قال القفال وكذا لو قصد الخياطة في الجلد فغلط وأصابت الإبرة اللحم وأما الكي فكالخياطة فينظر أكوى لحماً ميتاً أو حياً يؤلم وله سراية ولا اعتبار بالمداواة بما لا يضر ولا يخشى منه هلاك ولا بما على المجروح من قروح ولا بما به من مرض وضنى‏.‏

فرع قطع أصبع رجل فتآكل موضع القطع فقطع المقطوع كفه خوفاً من السراية نظر إن لم يتآكل إلا موضع القطع فليس على الجاني إلا القصاص في الأصبع أو أرشها إن لم يسر إلى النفس فإن سرى ففي وجوب القصاص على الجاني في النفس الخلاف المذكور في الخياطة وإن سرت الجناية إلى الكف ثم قطعها نظر أقطع في لحم ميت أم في حي ويكون الحكم كما ذكرنا في الخياطة ولو جرح عضواً فداواه المجروح فتآكل العضو فسقط فإن كان ما داواه به لا يورث التآكل فعلى الجارح ضمان العضو وإن كان يورث التآكل فليس عليه إلا أرش الجراحة فلو قال الجاني داويت بما يحدث منه التآكل وأنكر المجني عليه صدق المجني عليه بيمينه لأن الجناية معلومة وغيرها من الأسباب غير معلوم قال البغوي ويحتمل أن يقال المصدق الجاني بيمينه لأن الأصل براءته ولو قطع يد إنسان ومات المقطوع فقال الوارث مات بالسراية وقال الجاني بل قتل نفسه فأيهما المصدق بيمينه وجهان أصحهما الوارث وهو نصه في الأم‏.‏

فرع ضرب جماعة رجلاً بسياط أو عصى خفيفة حتى قتلوه نظر إن كانت ضربات كل واحد منهم قاتلة لو انفردت فعليهم القصاص وإن آل الأمر إلى الدية فهل توزع عليهم على عدد الضربات أم على عدد الرؤوس قولان أرجحهما الأول لأن الضربات تلاقي ظاهر البدن فلا يعظم فيها التفاوت بخلاف الجراحات وإن لم يكن ضرب كل واحد قاتلاً بأن ضربه كل واحد من العدد الكثير ضربة فمات فثلاثة أوجه أحدها لا قصاص على واحد والثاني يجب على الجميع القصاص لئلا يصير ذريعة إلى القتل وأصحها أنهم إن تواطؤوا على أن يضربوه تلك الضربات فعليهم القصاص وإن وقعت اتفاقاً فلا وإذا لم نوجب القصاص وجبت الدية قطعاً كذا قاله الإمام وذكر البغوي أنه لو ضربه واحد سوطين أو ثلاثة وآخر خمسين سوطاً أو مائة قبل زوال ألم الأول ولا تواطؤ فلا قصاص على واحد منهما لأن ضرب الأول شبه عمد والثاني شريك له ويجب بضرب الأول نصف دية شبه العمد وبضرب الثاني نصف دية العمد وأنه لو ضربه واحد خمسين ثم ضربه الآخر سوطين قبل زوال ألم الأول فإن كان الثاني عالماً بضرب الأول فعليهما القصاص لظهور قصد الإهلاك فيهما وإن كان جاهلاً فلا قصاص على واحد منهما لأنه لم يظهر قصد الإهلاك من الثاني والأول شريكه ويجب بضرب الأول نصف دية العمد وبضرب الثاني نصف دية شبه العمد وفرق بينه وبين ما إذا ضرب مريضاً سوطين جاهلاً مرضه حيث يجب القصاص بأن هناك لم يجد من يحيل عليه القتل سوى الضارب وليكن الحكم بتنصيف الدية في الصورتين تفريعاً على أن التوزيع على الرؤوس دون الضربات‏.‏

فرع جرحه رجل ونهشته حية ومات منهما فالجارح شرك الحية وقد سبق بيان القصاص وإذا آل الأمر إلى المال فعليه نصف الدية ولو جرحه مع ذلك سبع فوجهان أصحهما عليه ثلث الدية والثاني نصفها ويجعل غير الآدمي جنساً‏.‏

باب تغير حال المجروح بين الجرح والموت للتغير أحوال أحدها أن يطرأ المضمن وفيه مسائل إحداها إذا جرح مرتداً أو حربياً بقطع يد أو غيره ثم أسلم أو عقدت للحربي ذمة ثم مات من تلك الجراحة فلا قصاص قطعاً ولا دية على الصحيح المنصوص وقيل لا دية قطعاً لأنه قطع غير مضمون فلم تضمن سرايته كسراية القصاص والسرقة‏.‏

الثانية جرح حربي مسلماً ثم أسلم أو عقدت له ذمة ثم مات المجروح قطع البغوي بأنه لا ضمان ونقل بعضهم لزوم الضمان لأنه مضمون في الحالين‏.‏

قلت الصحيح لا ضمان والله أعلم‏.‏

الثالثة جرح عبد نفسه ثم أعتقه فمات بالسراية فلا ضمان على السيد على المذهب والمنصوص وقيل قولان ثانيهما وجوب الدية‏.‏

الرابعة رمى مرتدا أو حربيا فأسلم ثم أصابه السهم فلا قصاص لعدم الكفاءة في أول أجزاء الجناية وتجب الدية على المذهب وهو المنصوص وقيل لا تجب وقيل تجب في المرتد دون الحربي لأن المرتد لا يجوز لغير الإمام قتله ولأن المرتد يقتل بالسيف ولا يرشق بالنشاب فرشقه ممنوع ويجري الخلاف فيما إذا رمى إلى قاتل أبيه ثم عفا عنه قبل الإصابة وهو أولى بالوجوب من المرتد وفيما إذا رمى إلى عبد نفسه ثم أعتقه قبل الإصابة وهو أولى بالوجوب لأن العبد معصوم مضمون بالكفارة‏.‏

الخامسة حفر بئراً في محل عدوان فتردى فيها مسلم كان مرتداً وقت الحفر أو حر كان عبداً وجبت الدية بلا خلاف لأن الحفر ليس سبباً ظاهراً للإهلاك ولا يتوجه نحو معين فلا يؤثر وجوده في زمن الإهدار بخلاف الرمي‏.‏

فرع لو تغير حال الرامي بأن رمى حربي إلى مسلم ثم أسلم قبل الإصابة ففي وجوب الضمان وجهان‏.‏

فرع إذا قلنا بوجوب الضمان فيما إذا جرح حربيا فأسلم ثم مات وفيما إذا جرح عبد نفسه ثم أعتقه فمات فالواجب دية حر مسلم وكذلك في مثلهما من صور الرمي ثم الذي رأى الإمام القطع به وتابعه عليه الغزالي أن الدية في طريان الإسلام والعتق بعد الجرح تكون مخففة وعلى العاقلة كما لو رمى إلى صيد فأصاب آدمياً وأما في طريانهما بعد الرمي ففي الدية الواجبة خلاف مذكور في الديات‏.‏

الحال الثاني أن يطرأ المهدر فإذا جرح مسلماً ثم ارتد ثم مات بالسراية أو ذمياً فنقض العهد ثم مات فلا يجب قصاص النفس ولا ديتها ولا الكفارة لأنها تلفت وهي مهدرة وأما ما يتعلق بالجراحة ففيه صورتان إحداهما أن تكون الجراحة مما يوجب القصاص كالموضحة وقطع اليد ففي وجوب القصاص في الموضحة والطرف قولان أظهرهما الوجوب فعلى هذا قال الشافعي رحمه الله في المختصر لوليه المسلم أن يقتص فقيل أراد بالولي السلطان لأنه وارث للمرتد وقال الجمهور يستوفيه قريبه الذي كان يرثه لولا الردة لأن القصاص للتشفي وذلك يتعلق بالقريب دون السلطان فعلى هذا لو كان القريب صغيراً أو مجنوناً انتظر بلوغه وإفاقته ليستوفي‏.‏

الصورة الثانية أن تكون الجراحة موجبة للمال دون القصاص كالجائفة والهاشمة أو من جنس ما يوجب القصاص وقلنا لا قصاص أو عفي عنه فهل يجب المال وجهان ويقال قولان أصحهما الوجوب فعلى هذا فيما يجب وجهان أصحهما ويحكى عن النص أنه يجب أقل الأمرين من الأرش الذي تقتضيه الجراحة ودية النفس والثاني وبه قال الإصطخري يجب أرش الجراحات بالغاً ما بلغ فيجب فيما إذا قطع يديه ورجليه ديتان وعلى كل حال فالواجب فيء لا يأخذ القريب منه شيئاً هذا إذا طرأت الردة بعد الجرح فلو طرأت بعد الرمي وقبل الإصابة فلا ضمان باتفاقهم‏.‏

فرع قطع يده ثم ارتد المقطوع واندمل جرحه فله قصاص اليد فإن مات قبل أن يقتص اقتص وليه ومن الولي فيه الخلاف السابق فإن كانت الجناية توجب المال قال البغوي إن قلنا ملكه باق أخذه وإن قلنا زائل وقف فإن عاد إلى الإسلام أخذه وإلا أخذه الإمام‏.‏

الحال الثالث أن يتخلل المهدر بين الجرح والموت فإذا جرح مسلم مسلماً ثم ارتد المجروح ثم أسلم ومات بالسراية وجبت الكفارة قطعاً وأما القصاص فنص أنه لا يجب ونص فيما إذا جرح ذمي ذمياً أو مستأمناً فنقض العهد والتحق بدار الحرب ثم جدد العهد ومات بالسراية أن في وجوب القصاص قولين وللأصحاب طريقان أصحهما في المسألتين قولان أحدهما وجوب القصاص لأنه مضمون بالقصاص في حالتي الجرح والموت والثاني لا لتخلل حالة الإهدار والطريق الثاني تنزيل النصين على حالين فحيث قال لا قصاص أراد إذا طالت مدة الإهدار بحيث يظهر أثر السراية وحيث قال يجب فذلك إذا قصرت المدة بحيث لا يظهر للسراية أثر وإذا قلنا بطريقة القولين ففي موضعهما طريقان أحدهما تخصيصهما بما إذا قصرت المدة فإن طالت لم يجب القصاص قطعاً والثاني طردهما في الحالين قاله ابن سريج وابن سلمة وابن الوكيل والأصح عند الجمهور تخصيص القولين بقصر المدة والأظهر منها عند الجمهور أنه لا قصاص وأما الدية ففيها أقوال أظهرها عند الجمهور يجب كمال الدية والثاني نصفها والثالث ثلثاها والرابع أقل الأمرين من كل الدية وأرش الجراحة وهذان الأخيران مخرجان ثم قال الجمهور تختص الأقوال بما إذا طالت مدة الإهدار فإن قصرت وجب كل الدية قطعاً وقيل بطردها في الحالين قال الإمام وإذا أوجبنا القصاص فآل الأمر إلى المال ففيه هذا الخلاف وقال البغوي إذا أوجبنا القصاص فعفي وجب كمال الدية بلا خلاف وإنما الخلاف إذا لم نوجب قصاصا وهذا أرجح‏.‏

فرع رمى إلى مسلم فارتد وعاد إلى الإسلام ثم أصابه السهم فلا قصاص على المذهب وبه قطع الجمهور قال الإمام ويجيء فيه قول‏.‏

الحال الرابع أن يطرأ ما يغير قدر الدية فيجب ما يقتضيه يوم الموت لأن الضمان بدل التالف فيعتبر وقت التلف وقد يكون التغير من الأكثر إلى الأقل وقد ينعكس مثال الأول جنى على نصراني فتمجس ثم مات فإن قلنا يقر النصراني إذا تمجس على التمجس فعلى الجاني دية مجوسي وإن قلنا لا يقر فهو كما لو ارتد المجروح ومات فعلى الأصح يجب الأقل من أرش الجناية على نصراني ودية نفسه وعلى قول الإصطخري يجب الأرش بالغاً ما بلغ ولو جرح نصرانياً فنقض المجروح العهد والتحق بالحرب ثم سبي واسترق ومات بالسراية فلا قصاص في النفس ويجب قصاص الطرف إن كانت الجناية بقطع طرف وإن أراد المستحق المال ففيما يجب قولان أحدهما أقل الأمرين من أرش جنايته حراً وكمال قيمته عبداً وعلى هذا هو لورثته النصارى سواء كانوا عندنا أم في دار الحرب كذا حكاه ابن كج والروياني وفي قول غريب يكون لبيت المال‏.‏

قلت قد جزم البغوي على هذا القول بأنه لسيده لأنه بدل روحه وكانت ملكه والله أعلم وأظهرهما أن الواجب قيمته بالغة ما بلغت وعلى هذا إن كانت القيمة والأرش سواء أو كانت القيمة أقل فالواجب للوارث وإن كان القيمة أكثر فقدر الأرش للوارث والباقي للسيد ولو أن الذي ملكه أعتقه فمات حراً فقولان في أن الواجب أقل الأمرين من الأرش ودية حر ذمي وعلى القولين فالواجب لورثته ولو أسلم وعتق ومات ففي القصاص قولان وفي المال الواجب قولان هل هو دية حر مسلم أم أقل الأمرين من الأرش ودية حر مسلم وعلى القولين فهو لورثته المسلمين مثال العكس جرح ذمياً فأسلم أو عبداً لغيره فعتق ثم مات نظر إن مات بعد الاندمال وجب أرش الجناية ويكون الواجب في العبد لسيده فلو قطع يديه أو فقأ عينيه لزمه كمال قيمته سواء كان العتق قبل الاندمال أم بعده وقيل إن كان الاندمال بعد العتق فعليه دية حر والصحيح الأول وإن مات بالسراية لم يجب قصاص النفس إذا كان جارح الذمي مسلماً وجارح العبد حراً وتجب فيه دية حر مسلم لأنه كان مضموناً أولاً وهو في الانتهاء حر مسلم ولا فرق بين أن تكون القيمة أقل من الدية أو أكثر حتى لو فقأ عيني عبد قيمته تساوي مائتين من الإبل أو قطع يديه لم يجب إلا مائة ثم إن كانت الدية مثل القيمة أو أقل فالجميع للسيد وإن كانت أكثر فالزيادة على القيمة للورثة لأنها وجبت بالحرية وقال المزني إذا كانت القيمة أكثر وجبت بكمالها للسيد ولو قطع إحدى يدي عبد فعتق ومات بالسراية أوجبنا كمال الدية وفيما للسيد منها قولان أحدهما أقل الأمرين من كل الدية وكل القيمة وأظهرهما أقل الأمرين من كل الدية ونصف القيمة وهو أرش الطرف المقطوع في ملكه‏.‏